القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية قلوب لا ترمم الفصل الأول والثاني والثالث والرابع الأخير بقلم نورهان موسى حصريه في مدونة قصر الروايات

 

رواية قلوب لا ترمم الفصل الأول والثاني والثالث والرابع الأخير بقلم نورهان موسى حصريه في مدونة قصر الروايات 





رواية قلوب لا ترمم الفصل الأول والثاني والثالث والرابع الأخير بقلم نورهان موسى حصريه في مدونة قصر الروايات 




المقدمة 

كان ينسج في خياله طريقًا يجمعهما، يرسم ملامح مستقبلهما بخيوط من الأمل، يغزل أحلامه حولها كما يغزل العاشق قصائده الأولى.

لم يخطر بباله يومًا أن الطريق الذي تخيله مُعَبّدًا بالورد، سيكون مفروشًا بالأشواك، وأن كل خطوة نحوه سيكون ثمنها جزءًا من روحه.

لم يدرك أن الحب حين يتجاوز حدوده، يتحول إلى لعنة... لعنة تشتعل في القلب، وتلتهم الروح ببطء لا يرحم.

كان يظن أن العشق خلاصه، فإذا به يتحول إلى سجنه، إلى ألم يحفر أثره عميقًا في جسده، ويتركه أسيرًا لجرح لا يندمل.

لقد عشقها بجنون... وعاش هذا الجنون كأنه قدرٌ مكتوب لا مهرب منه.


قلوب لاترمم



قلوب لاترمم


الفصل الاول 

«تظاهر بالاكتفاء، حتى وإن كنتَ أكثرهم احتياجًا لكل شيء».


وقفت أمام المرآة تحدّق في انعكاس صورتها بتمعّن. خصلات شعرها البني تنساب على كتفيها في نعومة، وعيناها الحادتان تشعّان بتلك النظرة التي ورثها عنها ولدها... نظرة تحمل في طيّاتها صلابة وجروحًا لم تندمل. تغيّرت كثيرًا عمّا كانت عليه، لم تَعُد تلك المرأة الهشّة، بل أصبحت أكثر صلابة، أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا للمواجهة. تثبّتت من هيئتها، ثم التقطت حقيبتها وهمّت بالنزول.


في الأسفل، كان الجميع جالسًا حول الطاولة، ينتظرون قدومها في صمت مشوب بالترقّب. دقائق فقط، وراح صوت خطواتها يتردّد عبر السلم، يتسلّل إليهم شيئًا فشيئًا، حتى دخلت بهدوء. ألقت التحية بصوت خافت وجَلَست في مكانها المعتاد، محتفظة بملامحها المتماسكة كعادتها.


ساد الصمت لبعض الوقت، فقط صوت الملاعق وارتطامها بالأطباق. إلى أن قطعه صوت "مراد"، الذي نطق بجديّة مفاجئة:


_ "أنا نازل مصر بكرة."


تجمّدت يد "عليّا" فوق المائدة، واهتزّت الملعقة من بين أصابعها. رفعت نظرها إليه بحدة، ملامحها تلوّنت بالغضب، وعيونها اشتعلت بانفعال مكتوم:


_ "هتروح تعمل إيه في مصر؟! أنا مش قولتلك إن الموضوع منتهي تمامًا؟!"


انتفض مراد واقفًا، وعيناه تلمعان بالغضب المكبوت. صوته خرج جهورياً أجشّ، كأن صبره قد نفد:


_ "عليا! أنا مبقتش عيل صغير عشان تقوليلي أروح فين! فاهمة؟!"


وقفت هى الأخرى، وكأن كلماته صفعتها. ملامحها انقبضت، وصدرها يعلو ويهبط من شدّة انفعالها:


_ "أيوه، مش عيل، بس على الأقل خاف على نفسك! مراتك وابنك محتاجينك... متضيعش كل اللي عملته! كفاية اللي خسرته يا مراد!"


صمتت فجأة، وكأن الألم قد علق في حلقها، ثم استدارت وغادرت بخطوات سريعة تحمل في طيّاتها الغضب والخذلان معًا، دون أن تلتفت أو تنبس بكلمة أخرى.


ساد الصمت لثوانٍ، قبل أن يقطعه صوت "حياة"، الذي جاء عاتبًا ناعمًا، وفيه رجاء:


_ "عاجبك كده؟ أنت عارف إنها مش خايفة غير عليك... وأي حاجة تخص مصر بتعصبها، إنت فاهم ده كويس."


أخفض مراد رأسه للحظة، لكن سرعان ما تكلّم مجددًا، بصوت يحمل عنادًا لا يخلو من ألم دفين:


_ "لازم كل حاجة ترجع لأصلها، وحقها يرجع. لو هي ساكتة... أنا لأ، مش هسكت يا حياة."


اقتربت "حياة" منه بهدوء، وجلست إلى جواره، وأمسكت بيده كأنها تحاول أن تطفئ النار المشتعلة في صدره:


_ "بلاش يا مراد... أنت عارف الموضوع ده بيجرحها. وبعدين ناوي على إيه؟"


نظر إليها مراد بعينين غامضتين، تخبئان قرارات لم يُفصح عنها بعد، وقال بصوت خافت:


_ "مستحيل أجرحها... بس هتعرفي كل حاجة، في وقتها."

♕♕♕♕♕♕♕♕

على جانبٍ آخر، داخل إحدى الشركات التابعة لمجموعة "هاشم جروب"، وتحديدًا في مكتب "بدر هاشم المنياوي"، كان الجوّ مشحونًا بالترقّب والتركيز. جلس بدر خلف مكتبه الفخم، يتفحّص بعينين صارمتين مجموعة من الأوراق أمامه، بينما جلس "محسن"، أحد الموظفين، قبالته يناقشه في سير المشروعات التي تعمل عليها الشركة حاليًا.


رفع بدر عينيه عن الأوراق قائلًا بنبرة يعلوها الثقة:


_ "أنا شايف إن المناقصة هترسي علينا... إحنا مقدّمين أفضل عرض بين كل الشركات."


أومأ محسن برأسه، ثم قال بجدّية مشوبة بالقلق:


_ "فعلاً يا فندم، باقي الشركات عروضها أضعف. بس الخوف كله من الشركات الأجنبية. يعني في شركة اسمها (A.M)، بصراحة شايف إن عرضهم قوي جدًا."


تغيّرت ملامح بدر في لحظة، وارتسم على وجهه عبوسٌ غاضب. ضرب بقبضته سطح المكتب بقوة، حتى اهتزّت الأوراق من أمامه، وهتف بغضب حاد:


_ "إزاي يعني؟! لسه فاكر تقولي دلوقتي؟! وبعدين مش دي نفس الشركة اللي أخدت المناقصة اللي فاتت؟!"


ارتبك محسن، وانكمشت ملامحه، وأومأ سريعًا برأسه وهو يردّ بصوت منخفض مليء بالتوتر:


_ "أيوه يا فندم... هي نفس الشركة."


نهض بدر واقفًا بعصبية، يداه تتشنّجان، وصوته خرج صارمًا كالسيف:


_ "في أسرع وقت... عايز ملف كامل عن الشركة دي! كل حاجة... كل تفصيلة! فاهم؟!"


هزّ محسن رأسه بجدية، محاولًا كتم توتره:


_ "تحت أمرك يا فندم."


ثم استأذن في المغادرة، وانسحب من المكتب بخطوات متعجلة.


في الخارج، دخل مكتبه الخاص وجلس خلف مكتبه المتواضع. أخرج من أحد الأدراج صورة قديمة، كانت مخبّأة بعناية... صورة تجمعه بها، تلك التي سكنت قلبه طويلًا. كانت بين ذراعيه، تبتسم في سعادةٍ بريئة، وعيناها تلمعان ببريق الحياة. كم كانت جميلة... وكم كانت تلك الابتسامة كافية لشفاء قلبه ذات يوم.


لكن تلك الذكرى لم تُسعده، بل أشعلت في صدره نارًا لا تنطفئ.


تذكّر كيف كسرت قلبه، كيف أهانته أمام الجميع دون رحمة. تذكّر نظرات الشماتة، والخذلان، والذهول، حين مزّقت كرامته بكلماتها الجارحة.


احتقنت عيناه، واحمرّ وجهه من شدّة الغضب، وغلى الدم في عروقه حتى شعر أن جسده كله سينفجر من الغليان. صرّ على أسنانه، ثم فجأة، ومن دون تفكير، رماها بقوة نحو الحائط.


تحطّم الزجاج إلى شظايا متناثرة، وتبعثرت الذكرى، لكن الألم... بقي ينزف بصمت.

♕♕♕♕♕♕♕♕♕

كانت تتحدث عبر الهاتف، تركّز في كل كلمة تُقال، ملامحها مشدودة ولكن عيناها تلمعان بحماسة خفية. أنهت المكالمة بابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيها، ابتسامة نصر ناعم ينبئ بنجاح خطتها كما أرادت.


دلف "مراد" إلى المكتب بخطوات واثقة، وجلس أمامها، يتأمل وجهها الذي لا يزال يحمل آثار تلك المكالمة، ثم قال بنبرة تجمع بين الاهتمام والمزاح:


_ "لسّه زعلانة من اللي حصل الصبح؟"


نهضت من مكانها، دارت حول المكتب بخطوات محسوبة، ثم جلست أمامه، تطلّ عليه بعينين تحملان عتابًا مكتومًا، وأجابته بنبرة مقتضبة، يخالطها بعض الجفاء:


_ "أنت عارف إني عمرى ما بزعل منك... بس اللى قولته الصبح ما ينفعش يتكرر تاني، مفهوم؟"


ابتسم بخفة وتسلية، محاولًا كسر التوتر الذي خيّم على الأجواء:


_ "برضه مفيش فايدة فيكي... زي ما انتي. على العموم، كنت عايزك تجهّزي نفسك علشان مؤتمر رجال الأعمال اللي هيتعمل في مصر."


تبدّلت ملامحها في لحظة، واشتعل الغضب في عينيها، صوّبت نظراتها الحادة نحوه، ثم ردّت بنبرة حادة، تفيض بنفاد الصبر:


_ "قولتلك... مش هنسافر! أنت مش عايز تفهم ليه؟!"


اقترب منها بهدوء، وانحنى قليلًا حتى صار على مقربة من وجهها، ثم أمسك يديها برفق، وعيناه تنطقان بمحبة وحرص:


_ "اهدي... مفيش حاجة هتحصل، أنا جنبك. مش هنفضل عايشين في خوف طول العمر."


كانت على وشك الرد، شفتيها تحرّكتا لتبدأ بالكلام، لكنّه قاطعها بنبرة حاسمة، لا تحتمل النقاش:


_ "خلاص... مفيش كلام. بكرا هنسافر مصر. حضّري نفسك."


صمتت، لكن عينيها ظلّتا تراقبه، بين غضبٍ لم يخمد، وخوفٍ لم يهدأ، وقلبٍ يتمزق بين القبول والرفض.

♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕

في صباح اليوم التالي، حطّت الطائرة في مطار القاهرة الدولي، وبدت علامات الضيق واضحة على ملامح "عليا"، التي تنهدت بعمق وكأن شيئًا ثقيلًا يستقر فوق صدرها. أنهوا إجراءات الوصول بصمتٍ ثقيل، ثم استقلوا السيارة الخاصة بهم متجهين نحو القصر.


وما إن جلست في المقعد الخلفي حتى قالت بصوتٍ خافت، لكنه يقطر غضبًا مكبوتًا:


_ "أنا مش فاهمة إزاي مشيت وراك... مين المفروض الكبير هنا؟"


أجابها مراد بابتسامة هادئة، وعيناه تتأملانها بنظرة مزيج من الحنان والعند، ثم أشار بيده ناحية صدرها:


_ "هو ده اللي جابك... قلبك. بلاش تضحكي على نفسك أكتر من كده."


صمتت "عليا"، ولم تُجِب بكلمة واحدة، لكنها أرسلت إليه نظرات غاضبة، حادة كالسهم، قبل أن تحوّل وجهها ناحية النافذة، تغوص في صمتٍ مثقل بالتفكير، وكأن كلماته قد أصابت نقطة ضعف تعرفها جيدًا.


بعد مرور نصف ساعة، توقّفت السيارة أمام بوابة القصر. كان المبنى شامخًا، فخمًا، يليق بعائلة مرموقة، يضم عدة طوابق، وحديقة فسيحة، وأثاث فاخر تزيّنه اللوحات الزيتية المعلّقة، ما جعله أشبه بقصور الملوك.


دلفت "عليا" إلى الداخل برفقة "مراد"، و"حياة" زوجته، وابنهما الصغير "زين". وما إن خطت داخل القصر حتى انتشرت علامات الذهول على وجوه الموجودين، فقد كانت المرة الأخيرة التي وُجدت فيها عليا هنا عاصفة... حطّمت كل ما أمامها كالزلزال، وغادرت دون رجعة، حتى اعتقد الجميع أنها لن تطأ هذا المكان مجددًا.


لكن ها هي الآن... واقفة وسط دهشة الجميع، بنظرات صارمة وملامح مشدودة.


قالت فجأة بنبرة آمرة، موجّهة حديثها إلى الخادمة:


_ "لو سمحتي يا دادة، خدي زين علشان ياكل ويغيّر هدومه."


أجابتها الخادمة بسرعة واحترام، وهي تنحني قليلًا:


_ "حاضر يا هانم."


أخذت "زين" وانسحبت، بينما استدارت "عليا" بنظرة حاسمة نحو "مراد"، وأشارت له بيدها قائلة:


_ "وأنت... تعالى ورايا على المكتب."


هزّ رأسه وهو ينحني ساخرًا، وقال بنبرة تمثّل الخضوع الزائف:


_ "أمرك يا مولاتي."


نظرت إليه بنفاد صبر، وكزّت على أسنانها دون أن تعلّق، ثم توجهت إلى المكتب بخطوات حازمة.


أما "مراد"، فابتسم بخفة، وأرسل قبلة في الهواء نحو "حياة" التي وقفت تراقبهما، ولم تستطع كتمان ضحكتها، فقد اعتادت على سخريته اللاذعة ومزاحه الدائم، خصوصًا عندما يكون بصدد مواجهة "عليا" وأوامرها التي يُطلق عليها مازحًا "الوصايا العشر".


♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕

ساد جو من التوتر والقلق أرجاء قاعة الطعام، وكأن الهواء ذاته كان مشبعًا بالترقب. كانت الأنظار تتجه نحو بدر، الذي بدا وكأنه بركان يغلي تحت سطح هادئ؛ جالسًا في مكانه متماسكًا، بينما الغضب يشتعل في عينيه ويتصاعد في صدره دون أن يظهره على ملامحه. الجد، برزانته المعهودة، جلس على رأس الطاولة بصمت، ينتظر انتهاء الوجبة ليُحادث حفيده على انفراد، راغبًا في معرفة ما جرى.


قطع الصمت صوت "هاشم"، والد بدر، الذي كان يتناول طعامه بنظرات متفحصة:


_ "عملت إيه في الصفقة يا بدر؟!"


أجابه بدر بنبرة هادئة متناقضة تمامًا مع اللهيب المتأجج بداخله:


_ "للأسف يا بابا... خسرنا الصفقة، نفس الشركة خادتها للمرة التانية."


اتسعت ملامح هاشم بضيـق واضح، وحدّت نبرته بنفاد صبر:


_ "مش معقول كده... دي تاني مرة نخسر مناقصة كبيرة بالشكل ده! لازم تلاقي حل، لأن الخسارة الجاية هتبقى مؤثرة جدًا."


زفر بدر زفرة عميقة، خرجت كأنها محاولة فاشلة لإطفاء الحريق الذي يأكل صدره. يعلم تمامًا أن والده محق، وأن عليه أن يتحرك بسرعة. لا بد أن يعرف من يقف خلف هذه الشركة الغامضة التي بدأت تزاحمهم على كبرى الصفقات، وكأن هناك من يتعمّد إسقاطه.


أفاق من شروده على صوت الجد الحاد، وهو يتدخل قاطعًا التوتر:


_ "التجارة شغل ومكسب وخسارة، مش نهاية الدنيا. الأهم دلوقتي نركز على اللي جاي."


ثم أدار وجهه نحو بدر، وقال بنبرة جادة:


_ "المؤتمر اللي هيتعمل في الغردقة مهم جدًا لشغلنا... لازم نحضره كلنا."


ارتفع صوت زوجة الجد، بنبرة يغلب عليها الدلال: 


_ "يعني قصدك إننا هنسافر معاك يا حبيبي؟"


هز الجد رأسه بالإيجاب، بينما علت الابتسامة وجه "نهلة"، ابنة عبدالله المنياوي، التي ما إن سمعت بخبر السفر حتى هتفت بسعادة تلقائية:


_ "وأخيرًا هنسافر! الواحد بقاله كتير محبوس، لتكمل بحماس وهي تلتفت لأبيها: 


هو المؤتمر ده إمتى يا بابا؟!"


رد عليها عبدالله وهو ينهض من على الطاولة:


_ "بعد يومين إن شاء الله."


ثم أشار لبدر قائلاً:


_ "تعالى معايا يا بدر، عايزك في شغل."


نهض بدر متثاقلًا، وتبعه إلى المكتب، لا يزال ذهنه مشوشًا بالأحداث الأخيرة. جلسا داخل المكتب، وبدأا بمراجعة بعض الملفات المتعلقة بالمشروعات القادمة. قطع عبدالله حديث الأرقام فجأة، وسأل بنبرة محمّلة بالمعنى:


_ "أومال فين مراتك؟ بقالها فترة مش باينة في البيت... أنتم متخانقين ولا إيه؟"


توقف بدر عن التقليب في الأوراق، وأسند ظهره إلى الكرسي، ثم قال ببرودٍ متعمد:


_ "لا... مفيش مشاكل، هي بس كانت عند والدتها شوية، تعبانة شوية... وهترجع النهارده."


أومأ عبدالله برأسه، ثم أردف بنبرة تحمل الإشارة لا التصريح:


_ "لازم تاخدها معاك الغردقة... كل واحد هتكون مراته موجودة، ومش عايزين حد يفتح بُقّه بكلمة ملهاش لازمة."


هز بدر رأسه موافقًا، لكن داخله كان يموج بالغضب والرفض. هو لا يطيق وجودها بجواره، لا يشعر تجاهها بشيء سوى الجمود. زواجه بها كان لحظة انفعال وطيش، لحظة خذلان عاطفي جعلته ينتقم من قلبه بزواجٍ لا يريد منه سوى النسيان... لكنه لم ينسَ.


لاحظ عبدالله تصلب ملامح وجه بدر، وكيف انكمشت عضلات وجهه في تعبير يشي بالألم... كان يعلم تمامًا أن بدر لا يزال يفكر بها. تلك الأخرى التي تركت فراغًا في قلبه لم يُملأ، ولا يزال مجرد الحديث عنها يُشعل النار في عينيه.


♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕


بعد يومين، وفي قلب مدينة الغردقة الساحرة، إحدى أبرز مراكز السياحة والأنشطة البحرية في مصر، وتحديدًا داخل أروقة أكبر فنادقها حيث يُقام المؤتمر الدولي، احتشد عدد كبير من رجال وسيدات الأعمال داخل القاعة الرئيسية، يتبادلون الحديث في مجموعات صغيرة، كلٌّ يعرض رؤيته في تطوير الاستثمار ودور مصر الريادي في الساحة العالمية.


كان بدر هاشم واقفًا وسط مجموعة من رجال الأعمال، ينصت بتركيز إلى النقاش الدائر حول آفاق التطوير ودفع عجلة النمو، بينما تستعد القاعة لسماع كلمة من أحد كبار المستثمرين. وما إن أعلن المقدّم اسم المتحدث حتى صعد الرجل إلى المنصة، وبدأ حديثه عن أهمية بناء مستقبل مصر من خلال التعليم الجاد، وإعداد أجيال قادرة على حمل الراية.


لكن بدر، الذي كان حاضرًا بجسده، بدأ فجأة يشعر بأن عقله قد انسحب من كل ما حوله. تسارعت دقات قلبه كأنها تُعلن عن قلق خفي، واختفت الأصوات تدريجيًا من أذنيه، ولم يتبقَّ سوى همسات باهتة تتردد في الفراغ... همسات غامضة ولكنها مألوفة.


تسللت إلى أنفه رائحة يعرفها جيدًا... رائحة محفورة في ذاكرته، لم تفارقه يومًا، رائحة ارتبطت دومًا بالحنين، بالألم، بالحب الذي دفنه حيًا. أصلح بدر من هندامه بسرعة لا إرادية، ثم أدار وجهه ببطء نحو باب القاعة، وكأن قلبه قد سبقه إليه.


وهناك... كانت تقف.


بهيبة لا تخطئها عين، ظهرت عليا، متألقة بقوة لافتة، ترتدي طقماً كاملاً باللون الأسود، بليزر أنيق فوق قميص بنفس الدرجة، وبنطال قماشي يعكس أناقتها الصارمة، شفاهها مرسومة بلون قرمزي قاتم، وخصلات شعرها مرفوعة في ذيل حصان أنيق يعكس عنادها المعتاد وقوة شخصيتها.


رفعت عينيها نحوه، ونظرت إليه بنظرات صلبة، تحمل مزيجًا من الكره والقوة، لكن بدر... كان يراها وحدها، يراها بقلبه قبل عينيه. يعلم أنها لا تزال تحبه، رغم كل ما حدث، رغم الجراح التي لم تندمل، لكنه أيضًا يعلم أنها باتت تبغضه بمرارة، بغض لا يصدر إلا ممن أحب بصدق... وتألم حتى النزف.


أما عليا، فقد تلاقى نظرها بنظره، وتوقفت لحظة... في عينيها اشتياق حاولت أن تنكره، لمعة خافتة كادت أن تفضح رغبتها القديمة في أن تسرع إليه، أن ترتمي في حضنه وتبكي، لكن شيئًا ما داخلها كان يصرخ: "لم يعد لك... لقد خسرته."


عادت إلى نفسها في لحظة، تذكّرت كل شيء، كل خذلان، كل لحظة انكسار، وكل دمعة أُجبرت أن تبتلعها بصمت. فاشتدّ بريق عينيها، ولمعت فيهما شرارة من الحسم والانتقام. رفعت رأسها بثبات، وسارت إلى داخل القاعة بخطوات واثقة، كأنها تدهس كل ضعف تحت كعب حذائها، لم تعره أي اهتمام، وكأن وجوده لا يعني شيئًا.


لكن بداخلها... كانت تعاني.


صراع عنيف يحتدم بين قلب يشتاق، وكبرياء يأبى أن ينكسر مرة أخرى. حاولت أن تسيطر على ملامحها، أن تُبقي رأسها مرفوعًا، لكن عينيها لم تكفّا عن مراقبته في الخفاء، وعقلها كان يخطط جيدًا للخطوة التالية... خطوة لا عودة بعدها.


كانت عليا على يقين... إن لم تستطع أن تنسى، فعلى الأقل، ستجعله يدفع الثمن.

♕♕♕♕♕♕♕

الفصل خلص 

مستنية دعمكم وتفاعلكم اللي بيفرق معايا جدًا ❤


قلوب لاترمم

الفصل الثاني 


«وقد تتحدث العيونُ بما لا يشتهي اللسانُ قوله» 

كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، وكأن ظهور "علياء" قد نكأ جرحًا قديمًا لم يُشفَ بعد. تسارعت نبضات الجميع حين أطلت بطلّتها المهيبة، وكأنها شبح من ماضٍ لم يُنسَ، يعيد الذكريات التي دفنوها تحت رماد النسيان. 

أما هي، فبداخلها كان يشتعل إعصار من المشاعر المتضاربة. كلما مرّت صورة من الماضي أمام عينيها، شعرت بقلبها يهتز بعنف، وكأن ما جرى بالأمس لم يكن إلا لحظة مضت لتخنق أنفاسها اليوم. كيف كانت بذلك الضعف؟ كيف صدقت يومًا أنه أحبها؟! 

استفاقت من شرودها فجأة، لتسحب قناع البرود على وجهها من جديد، وتخفي خلفه كل ألم دفين، تمامًا في اللحظة التي دوى فيها صوت منظم المؤتمر عبر الميكروفون، معلنًا اسم الشركة التي تصدرت قائمة النجاح: 

_ "ودلوقتي يا جماعة، رئيس مجلس إدارة شركة A.M هتطلع تتكلم بنفسها." 


تجمّدت ملامح "بدر"، واتسعت حدقتا عينيه في ذهول، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة. تجمّدت الكلمات في حلقه، وكأن صاعقة ضربت صدره، ليكتشف أخيرًا من تكون صاحبة الشركة التي انتزعت منه صفقة العمر... والكرامة. 

رآها تتقدّم بين الحضور بخطوات واثقة، وكأنها تسير على عرش صنعته من دموعه القديمة. نظراتها كانت سيوفًا مسنونة، تطعن بلا رحمة، وابتسامتها... تلك الابتسامة الخبيثة التي زينت شفتيها، لم تكن سوى إعلان صريح بالانتصار والانتقام. 

وقفت أمام الجميع، وصوتها ينساب بثبات أشعل النيران في صدره: 

_ "مساء الخير... أنا عليا أكرم الحسيني، رئيس مجلس إدارة شركة A.M جروب. سعيدة بوجودي معاكم في المؤتمر النهاردة." 

كلماتها خرجت بلهجة ناعمة، لكنها كانت كالرصاص، موجهة نحوه وحده دون أن تذكر اسمه. لم يكن أحد بحاجة للتفسير... كل كلمة قيلت كانت له، وكل نظرة كانت نحوه، وكل انتصار هو هزيمته. 

اشتعلت النيران في صدر "بدر"، وغلت الدماء في عروقه، كأن بركانًا على وشك الانفجار. لم يكن يتخيل يومًا أن تكون هي من تقف في مواجهته، منافسته، وقاهرته. كان يدقق النظر في ملامحها، يبحث عن تلك الفتاة التي أحبها يومًا، فلم يجد إلا سيدة قوية، صارمة، تلبس الانتقام كدرع، وتلوّح بابتسامتها كأنها خنجر مسموم. 

إلى جواره، كانت هناك عيون أخرى تتابع "علياء"... عيون امتلأت بالغيرة والضغينة، تشتعل حقدًا من أناقتها اللافتة وجمالها الذي يأسر العقول. امرأة كانت تظن نفسها محور اهتمامه، فإذا بها ترى نظراته تسرق إليه من جديد، وكأن الزمن عاد به إلى الوراء دون إذن. 

أما "علياء "، فكانت تشعر بذلك. كانت تحترق من الداخل، لكنها كانت تعلم أن اللحظة لحظتها، وأن الضعف لم يعد مكانه في قلبها. رفعت رأسها عاليًا، وأكملت عرضها بثقة المنتصر، بينما في أعماقها… كانت تتصارع آلاف الأحاسيس التي لم تهدأ منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها حياته. 

*************

صرخ بانفعال ممزوج بالغضب، وهو يتحرك في الغرفة جيئة وذهابًا كأنما أسد حُبس في قفص ضيق: 

_ "أنا مش فاهم... ليه مُصرة تعاملني كأني طفل؟!" 

كان يمرر كفّيه على خصلات شعره بعنف، يكرر الحركة المرة تلو الأخرى حتى كاد أن يقتلعها من جذورها، وكأنما يحاول انتزاع الألم من رأسه بالقوة. 

اقتربت منه "حياة" بخطوات مترددة، ثم أمسكت بيديه المرتجفتين وقبّلتهما بحنانٍ عميق، محاولة امتصاص انفعاله بصوتها الرقيق: 

_ "حبيبي، ممكن تهدأ شوية؟ علياء مش بتعمل كده عشان تقلل منك، هي بتحبك، وكل اللي بتعمله ده من خوفها عليك. هي قالت بنفسها إن كل حاجة هتظهر في الوقت المناسب." 

تنهد بمرارة، وصوته يخرج مثقلاً بالحزن: 

_ "بس لحد إمتى؟! أنا تعبت... وهي كمان. لازم تبدأ تشوف حياتها، تعيش سنها، تستمتع زي باقي البنات. ضحّت عشاني كتير... وجيه الوقت اللي أضحي أنا عشانها." 

نظرت إليه "حياة" بعينين متسائلتين، عقدت حاجبيها بقلق وسألته: 

_ "مش فاهمة قصدك إيه بأنك هتضحي عشانها؟" 

أفاق من شروده على وقع صوتها القلق، استدار نحوها، وابتسم ابتسامة دافئة، ثم سحبها برفق إلى أحضانه، وهمس بنبرة مطمئنة: 

_ "ما تخافيش يا حبيبتي... مفيش حاجة تقلق أبداً." 

ثم أردف بنبرة ماكرة، وهو يغمز لها بعينه: 

_ "بس في موضوع خطير جداً... عايزك فيه حالاً." 

ابتعدت عنه فجأة وهي تهتف بجديّة، وقد احمرّ وجهها خجلًا: 

_ "انسَ قلة الأدب اللي في دماغك! ابنك موجود يا بابا!" 

رفع حاجبيه بدهشة وهو يكرر كلمتها الأخيرة باستنكار ساخر: 

_ "بابا؟!" 

اقترب منها ببطء، حتى التصق جسده بجسدها، وارتدّ ظهرها إلى الحائط، ثم همس قرب أذنها بنبرة تفيض عشقًا ودفئًا وهو يطبع قبلة خفيفة على عنقها، صاعدًا بشفتيه إلى فمها المرتجف: 

_ "بحبك... يا حياة قلبي." 

كانت لمساته كالسحر، تتسلل إلى أعماق روحها وتذيب كل مقاومة بداخلها. انمحى العالم من حولها، لم تعد تسمع شيئًا سوى خفقات قلبها المتسارعة، ولم ترَ سوى عينيه الغارقتين بالشوق. 

شهقت بصوتٍ منخفض حين رفعها بين ذراعيه ووضعها على الفراش برفق، وكأنها كنز يخشى أن ينكسر... ثم غابا معًا في جنة عشق تملؤها الحميمية، حيث لا وجود إلا لهما وحدهما، وكل شيء آخر بات مجرد صدى بعيد لا يُذكر. 

************

انتفض "فريد" كمن صُفع على وجهه، وقد حاول جاهدًا استيعاب ما سمعه للتو. اتسعت حدقتا عينيه في ذهول، وجحظتا وكأنما رأى كابوسًا يتجسد أمامه. جاهد لإخراج صوته من بين شفتيه اليابستين، فخرج مبحوحًا متقطعًا: 

_ "أنت... عرفت منين؟!.. طيب، جهّز الرجّالة، أنا جاي على طول... مش هتأخر." 

أغلق الهاتف بعنف، بينما كان قلبه يخفق بسرعة تكاد تفتك بصدره. جلس مطأطئ الرأس، يُخفي وجهه بين كفيه، يئنّ داخليًا كبركان مكبوت. 

دخلت زوجته في تلك اللحظة، لتجده غارقًا في دوامة من الغضب والذهول. حدقت فيه بقلق، وقد شعرت بثقل أجواء المكان ونذر الخطر تحوم حوله، فهتفت بتوجّس: 

_ "حصل إيه يا فريد؟! وليه كنت بتزعق كده؟!" 

رفع رأسه ببطء... وكأنما كشف الغطاء عن ملامح رجل آخر، لا تعرفه. ملامحه كانت مشدودة، قاسية، يغمرها الشر... عيناه تبرقان بحقدٍ أسود. نظر إليها بغضب مكتوم، ورد بنبرة تنذر بالعاصفة: 

_ "بنت أكرم كانت بتضحك عليا السنين دي كلها... والله، لأخلّيها تندم! هتندم إنها لعبت معايا... وهتاخد جزاها، وهآخد منها كل اللي أنا عايزه!" 

ارتعد جسدها من وقع كلماته، وانكمشت ملامحها خوفًا من النظرة الحارقة التي سكنت عينيه. نهض من مجلسه بعنف، وكأن قوة خفية تدفعه، وكأنه لا يرى أمامه. 

تابعته بعينين مذعورتين، وهتفت بنبرة تخالطها الدموع: 

_ "رايح فين؟! استنى بس... فهّمني إيه اللي حصل؟!" 

استدار نحوها بحدة، كمن فقد السيطرة على نفسه، وردّ بنبرة كالصاعقة أفزعتها: 

_ "لازم آخد حقي... وأفهمها إنها اختارت الطير الغلط... مش كل طير يتاكل لحمه!" 

ثم التفت وغادر كعاصفة هوجاء، تاركًا إياها خلفه ترتعش من الخوف، قلبها يطرق صدرها بقوة. أمسكت بهاتفها بيد مرتجفة، وراحت تتصل بـ"علياء" مرارًا وتكرارًا، محاوِلة تحذيرها مما هو آتٍ... لكن بلا فائدة، لا رد. 

************

كانت تقف إلى جوار الوزير، تشكره بابتسامة هادئة على تلك الاستضافة الخاصة، فيما كان هو يرد عليها بنبرة يغلفها الإعجاب: 

_ "بجد أنا بحييكي على النجاح الكبير للمشاريع اللي اتنفذت على أرض الواقع. المشاريع دي هتخلق فرص عمل محترمة لعدد كبير من الشباب، وكمان هتفيد المجتمع كله." 

ابتسمت له بثقة وثبات، وقالت بعزيمة واضحة: 

_ "العفو يا فندم، دي أقل حاجة أقدر أقدمها لبلدي. أنا بنت البلد دي، وخدمتها شرف ليا." 

ثم أشار الوزير بيده نحو بدر المنياوي، الذي كان يقف غير بعيد، يوليهم ظهره، يتحدث مع أحد شركائه، فيما كانت رغده تلتصق به عن عمد، ترسل رسالة صامتة أن بدر لها وحدها. 

قال الوزير وهو يبتسم: 

_ "تعالي أعرّفك على بدر المنياوي... راجل أعمال ناجح زيك كده، وممكن تعملوا شغل جامد مع بعض." 

شعرت علياء بتوتر خفي يجتاح أوصالها، لكنها جمعت شتات قوتها وتقدمت بثبات، تخفي عاصفة قلبها الذي كان يدق بعنف كلما اقتربت أكثر. ومع كل خطوة، كانت عيناها تلمعان بالاشتياق والمرارة حتى انقلب هذا الشعور إلى غضب عارم، حين رأت رغده تمسك بيده بتملك واضح. 

صرخ الوزير بابتسامة: 

_ "بدر، أعرّفك على مدام علياء الحسيني." 

استدار بدر ببطء، وما إن وقعت عيناه عليها حتى تصلب جسده كصخرة صماء. التقت نظراتهما، اشتعلت بينهما نيران دفينة. حاول بدر أن يخفي اضطرابه خلف ابتسامة مصطنعة، وقال موجهاً حديثه للوزير: 

_ "أهلاً بيك يا معالي الوزير." 

ثم التفت نحوها، يحدق فيها كأنما يحفر ملامحها داخله، وقال بنبرة خشنة: 

_ "اتشرفت بمعرفتك يا مدام." 

هزت علياء رأسها بإيماءة مقتضبة، تخفي الزلزال الذي اجتاحها، وشريط الذكريات يمر أمام عينيها بلا رحمة. 

استأذن الوزير وغادر بعد مكالمة هاتفية عاجلة، ليتركهما في مواجهة محتدمة. اقترب بدر منها وانتزع يد رغده بعنف وهو يقول بحدة: 

_ "خليكي هنا وارجعي ع الترابيزة." 

ثم قبض على ذراع علياء وسحبها بعيدًا عن الأعين. حاولت أن تفلت ذراعها، نجحت للحظة، لكنه جذبها من جديد، لصقت بصدره الذي يهتز مع أنفاسه المضطربة. اقترب من أذنها، وهمس بخشونة لاذعة: 

_ "جاية ليه تاني؟ مش كفاية اللي حصل؟ ولا ما اتعلمتيش الدرس؟! أنا بمنتهى البساطة أفضحك قدام الناس اللي جوه... اللي فاكرينك ست عظيمة وملاك!" 

اهتز جسدها من شدة الألم والقهر، وضباب كثيف غطى عينيها. رفعت ذراعيها بعنف ودفعت صدره لتبتعد عنه، وقالت بصوت متهدج تخنقه الدموع: 

_ "صدقني يا بدر، هتندم... هتندم على كل كلمة قلتها، وكل إهانة وجهتها ليا. وهتعرف كويس مين اللي كان بيحبك بجد، ومين اللي خانك بجد!" 

ارتبك بدر للحظة، وتلعثم قبل أن يقول بنبرة مترددة، يحاول أن يخفي اضطرابه: 

_ "تقوليلي قصدك إيه؟ وضحي كلامك." 

ابتسمت بسخرية مؤلمة، وعيناها تلمعان بمرارة وقالت بنبرة لاذعة: 

_ "بكرة تعرف كل حاجة... كل حاجة في وقتها يا بدر بيه." 

استدارت وغادرت بخطوات غاضبة، وصدرها يعلو ويهبط من شدة الانفعالات، فيما تركته خلفها غارقًا في صدمة لا يعرف لها مخرجًا. 

استدارت علياء تغادر، ظهرها مشدود، وكتفيها يرتجفان رغم محاولتها التماسك. 

كان صدرها يعلو ويهبط بعنف، وكأنها تخوض معركة ضد دموعها التي كانت تملأ عينيها، تهدد بالانهيار في أي لحظة. 

أما بدر، فظل واقفًا مكانه، يتابعها بنظرات مشتعلة بالذهول والمرارة. 

قبضته ارتجفت بجانبه لا إرادياً، حتى أظافره غرزت في راحة يده من شدة الغضب المكبوت. 

عينيه كانت تائهة، تطارد خطواتها وكأنها آخر طوق نجاة ضاع منه دون رحمة. 

شفتيه كانت ترتجف، وعروق عنقه بارزة من فرط الانفعال، وكأنه يحبس صرخة حارقة داخله. 

حاول أن ينطق، أن ينادي عليها، لكن الكلمات علقت في حلقه، خانته كما خانته مشاعره. 

علياء كانت تتمايل بخطوات مرتبكة فوق الأرض الرخامية، كأن الأرض تهتز تحت قدميها. 

بين الحين والآخر كانت ترفع يدها المرتعشة تمسح دمعة خائنة انسابت رغماً عنها. 

عينيها كانت مشتعلة بمزيج رهيب من الغضب والحزن، تحمل في نظراتها وعدًا بالانتقام... وانتظار الحقيقة. 

شعر بدر وكأن المسافة بينه وبينها تبتلع أنفاسه. 

كل حركة من حركاتها كانت تطعن قلبه طعنة أعمق. 

ورغم كل شيء، رغم جرح الكرامة والخذلان، وجد نفسه يتمنى لو يستطيع أن يركض خلفها، يحتضنها ويكسر كل هذا الجليد الذي تراكم بينهما. 

لكن كبرياؤه كان أقسى من قلبه. 

شد قامته بقسوة، كأنما يحتمي بها من الانهيار. 

أغلق عينيه لثوانٍ يحارب بها نوبة وجع جارفة، قبل أن يفتحهما مجددًا وقد خبا لمعان الشر فيهما، وتحولتا إلى حفرتين من الألم المكبوت. 

وبينما كانت تختفي علياء وسط الزحام، همس بدر لنفسه بمرارة بالكاد سُمعت: 

_ "بكرة... بكرة أعرف كل حاجة..." 

ثم استدار، وهو يشعر أن خطواته أصبحت أثقل من أن يحملها جسده، وكأن قلبه نفسه قد صار مقيدًا بقيود من ندم وأسرار لا يعرف لها مخرجًا. 

***************

على الجانب الآخر، داخل القاعة، كانت علامات الدهشة ترتسم جليًا على وجوه أفراد عائلة بدر، وقد اتسعت أعينهم وارتفعت حواجبهم في ذهول واضح مع عودة علياء المفاجئة إلى الساحة. 

بدأت الأحاديث الجانبية تتصاعد بينهم همسًا، نظرات مترقبة وفضولية تتنقل بينها وبين بدر، وكأنهم يحاولون قراءة ما خفي عنهم من أحداث وأسرار. 

أما رغده، فقد جلست في أقصى طرف الطاولة، كتفيها مشدودان، وشفتيها معقودتان بامتعاض بالغ. 

كانت قبضتاها مشدودتين فوق حجرها حتى ابيضت مفاصلها، ووجهها احمرَّ من شدة الغيظ والانفعال. 

كانت تتذكر تركه لها بتلك الطريقة المهينة، وكيف جذب علياء دون أن يكترث بوجودها أو بمشاعرها المتقدة. 

راحت تزم شفتيها بقوة، وعيناها تلتمعان ببريق حاقد، تكاد شرارات الغضب تتطاير منهما. 

في داخلها، كانت تغلي كالمرجل، تتوعد لكل من تسبب في إذلالها، تخطط في صمت لأن ترد الصفعة مضاعفة، لا رحمة فيها ولا شفقة. 

شعرت كأنها تبتلع غصة خانقة كلما رأت نظرات الإعجاب الخفية التي لاحقت علياء من بعض الحاضرين. 

كانت تشعر أن كبرياءها الجريح ينزف بلا توقف، وأقسمت في داخلها أنها لن تسمح لهم بالانتصار عليها... أبداً. 

♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕

الفصل خلص 

مستنية دعمكم وتفاعلكم اللي بيفرق معايا جدًا ❤


قلوب لاترمم

الفصل الثالث 


«عندما نظرتُ إلى عينيكِ، أيقنتُ أنني أقف أمام كل ما تمنّيته يومًا.»


في مساء اليوم نفسه


أُقيم حفل فاخر احتفالًا بنجاح المؤتمر، حيث تزينت القاعة بأضواءٍ مبهرة وأنغامٍ موسيقية تملأ الأجواء بهجة.


كان الجميع يتابع فعاليات الحفل بحماس، بينما جلس بدر إلى جوار عائلته، عيناه تجولان بلهفة بين الحضور بحثًا عنها، وكأن روحه لا تهدأ دون رؤيتها.


مرّت ثوانٍ معدودة قبل أن تتجمد نظراته، واحتقن وجهه بالغضب، واحمرت عيناه حتى كاد الشرر يتطاير منهما.


كاد الدم يغلي في عروقه وهو يراها تسير برفقة مراد، تمسك بذراعه برفق، مرتدية فستانًا أحمر عاري الكتفين، يلتصق بجسدها بإغواء فاضح، يزيدها فتنةً وسحرًا حتى سلبت أنفاسه.


نهض فجأة من مقعده، يكاد ينفجر من الغيظ، إلا أن يد جده امتدت بثبات وقبضت على ذراعه، يهز رأسه بالنفي، في إشارة صامتة لكبح جماح غضبه.


بصعوبةٍ بالغة، عاد بدر إلى مقعده، والنيران تشتعل في صدره أكثر، يعتصر كفيه فوق ركبتيه محاولًا أن يخفي الانفجار الكامن داخله.


على الجانب الآخر من القاعة،


كان مراد يبتسم برقة وهو يتحدث مع زين الصغير، ينحني نحوه يمازحه بحنان، بينما تراقبهم عليا، تغمرها سعادة خفية لرؤيتهما يتبادلان الضحكات.


مالت نحوه مبتسمة، تقول بتساؤلٍ دافئ:


_ "حياة مجتش معاك؟! حصل حاجة بينكم؟"


رفع مراد بصره إليها، وهز رأسه نافياً، مجيبًا بهدوء:


_ "لا خالص، هي بس تعبانة شوية وعندها دور برد، فحبت ترتاح... وأنا خدت الباشا ده أهو يغير جو شوية."


ابتسمت علياء بحنو وهي تهز رأسها تفهمًا، غير أن حواسها التقطت نظرات ثاقبة مشتعلة بالغضب تلاحقها من بعيد...


تجاهلت ذلك عمدًا، وأرادت زيادة النار اشتعالًا في صدره.


مالت على مراد تقبله على وجنته برقة واضحة، وهمست له وهي تبتسم بمكر، متعمدة أن يراها بدر:


_ "أنا فرحانة قوي إنك مبسوط في مصر، يا حبيبي."


اشتعل الغضب في عيني بدر أكثر، وقد شعر وكأن الدم يفور في عروقه.


أمسك مراد يديها بحماس حقيقي وهو يردف بلهجةٍ مفعمة بالحيوية:


_ "فرحان؟! دي كلمة قليلة... إنتي مش متخيلة كنت مخنوق قد إيه! كأني كنت عايش في سجن وطلعت للنور."


تسللت لمسة من الحزن إلى قلب علياء، وهي ترى في عيني شقيقها الصغير انعكاسًا لكل الألم الذي عاشه بعيدًا عنها.


ضغطت على يده بحبٍ أخوي صادق، تخفي دمعة حبيسة خلف ابتسامتها القوية، وواصلت متابعة فعاليات الحفل، فيما كانت المشاعر تتقلب داخلها كعاصفة لا تهدأ.


ورغم محاولات علياء للتماسك، إلا أن عينها لم تستطع أن تمنع نفسها من التسلل إلى حيث يجلس بدر، تراقبه خلسة.


كان يجلس صامتًا، جسده مشدود، يكاد يطحن أسنانه من شدة الغضب، وكفيه ينقبضان فوق ركبتيه بقوة بالغة حتى ابيضّت مفاصله.


لم تكن بحاجة لأن تسمع صوته كي تعرف مدى اشتعاله، فقد كانت نظراته وحدها كافية لإشعال الحريق في أي مكان تقع عليه.


ورغم كل ما يحترق بداخله، ظل يحبس غضبه خلف قناع صلب من الجمود، وكأنما يخوض معركة شرسة مع نفسه كي لا ينهض ويطيح بكل شيء.


أما رغده، التي كانت تراقب الموقف بعينين جاحظتين من الطرف الآخر للطاولة، فقد اشتعلت غيرتها وغضبها حتى كاد وجهها أن ينفجر من الاحمرار.


كانت قبضتاها مضمومتين بقوة فوق حجرها، تكاد أن تخترق أظافرها جلدها من شدة الغيظ، وهي ترى عليا تسرق أنظار بدر وقلبه دون أن تبذل جهدًا يُذكر.


وهي تتذكر كيف تركها بدر في لحظة غضبٍ قبل قليل، توعدت لهما في داخلها، أقسمت ألا تترك هذه الإهانة تمر مرور الكرام، وكانت نار الحقد تشتعل في صدرها بلا رحمة.


في تلك اللحظة، كان الشرر يتطاير من عيني بدر، ونظراته الحادة تكاد تفتك بما تقع عليه من شدة الغضب، حتى انتفرت عروق رقبته وتصلبت عضلاته من فرط التوتر، وهو يراها تبتسم بسعادة وتطبع قبلة خفيفة على وجنة مراد.


ازدادت نيران غيرته اشتعالًا، لكنه فجأة تجمد مكانه، وتبدلت ملامحه الغاضبة إلى صدمة وحيرة، حين وقعت عيناه على ذلك الطفل الصغير الجالس بجوارها، نسخة مصغرة من ملامح ذلك الرجل.


غاص في بحار أفكاره، يفتش عن إجابة تشفي لوعته:


هل من الممكن أن يكون هذا الطفل ابنها؟ هل تحمل ملامحه سرًا كانت تخفيه عنه طوال تلك السنوات؟


أفاق من دوامة أفكاره على صوت رغده، وهي تهمس بجوار أذنه بنبرة ممتلئة بالغضب والمرارة:


ــ "كفاية تبص عليها! معقول لسه بتحبها بعد كل اللي عملته فيك؟ طب على الأقل احترمني قدام الناس!"


التفت بدر إليها ببطء، كوحش جريح، وانطلقت كلماته بصوت خفيض لكنه يحمل شراسة بثت الرعب في أوصالها:


ــ "انتي عارفة إني عمري ما حبيتك... واتجوزتك بس عشان جدي، وعشان الشكل قدام الناس. أنتي جزء من الصورة اللي كنت محتاج أكملها مش أكتر، وظنّي إنك وافقتِ عشان تبقي مرات المليونير بدر المنياوي. فبلاش تمثيل وحركات فاضية."


شحب وجه رغده، وتراجعت خطوة إلى الخلف كأن كلماته صفعتها، لم تصدق أنها تسمع تلك القسوة منه علنًا، أمام الجميع.


اهتزت أنفاسها في صدرها من شدة الغضب والإهانة، قبل أن تنهض من مقعدها متصنعة الابتسامة، ثم اعتذرت للحاضرين متعللة بأنها تشعر ببعض الإرهاق مع اقتراب موعد ولادتها.


غادرت القاعة والخزي ينهشها من الداخل، وعيناها تقدحان شررًا من الغضب والحقد وهي تراقب عليا بطرف عينيها.


لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير بمرارة:


رغم كل ما فعلت... رغم كل ما خططت له... يظل يعشقها هي فقط.


في أحد الفنادق القريبة من موقع الحفل، كان يجلس فريد وهو يلهث بغضبٍ مكتوم، يشعل سيجارته بأنامل ترتجف قهرًا. تطاير الدخان الكثيف حوله، فيما عيناه تحدقان في الفراغ بنظرة شاردة يملؤها الحقد والكراهية.


أزاح رأسه إلى الجانب متنهداً بعمق، يحاول كتم الغليان الذي يجتاح صدره، حين دلف الحارس الخاص به إلى الغرفة.


التفت فريد إليه ببطء، قبل أن ينهض بخطوات متزنة ويجلس متقاطع الساقين، تتلألأ عيناه ببريق شيطاني، وهتف من بين أسنانه بصوت بارد متجمد:


ــ "حضّرت كل حاجة؟ والراجل اللي هينفذ جاهز؟"


أومأ الحارس برأسه بالإيجاب، وأجاب بثقة مصطنعة تخفي اضطرابه:


ــ "كل حاجة جاهزة زي ما حضرتك أمرت بالظبط."


نهض فريد بغتة، ليقف أمامه بانفعال ظاهر، وعروقه نابضة بالغضب، وصاح بلهجة تحمل التهديد القاتل:


ــ "المرادي مش عايز أي غلطة... فاهم؟! أي خطأ هيحصل مش هيكفيني عمرك كله!"


ازدرد الحارس ريقه بخوف ظاهر، وهو يعلم جيدًا أن هذا الرجل لا يعرف للرحمة طريقاً، وأجابه متلعثمًا:


ــ "ما تقلقش يا باشا... المرة دي مش هتفلت مننا أبداً."


أشار له فريد بيده يأمره بالانصراف، ثم جلس مرة أخرى، وأسند ظهره إلى المقعد بتثاقل، وهو يغوص في ذكرياته السوداء.


«فلاش باك» 


كان يسير يومها في ممرات المشفى، والغضب والخوف ينهشان صدره، قلبه يخفق بعنف، وإن كان السبب مختلفًا عما كان يُظهره.


اقترب من غرفة العمليات، فوجد علياء تقف هناك، تضم شقيقها مراد الصغير إلى صدرها، وعيناها تفيضان بالدموع.


سار نحوهم، متقمصًا دور القلق والخائف، وهتف بصوت مشوب بالتوتر المصطنع:


ــ "إيه اللي حصل يا علياء؟ طمنيني، أخويا عامل إيه؟"


التفتت إليه علياء، واندفعت نحوه تبكي بحرقة، وارتمت بين ذراعيه تبحث عن بعض الأمان.


ربت على ظهرها بحنان زائف، وهمس لها بنبرة مطمئنة:


ــ "اهدي يا حبيبتي... إن شاء الله هيكون بخير."


تحررت علياء من حضنه، والرجفة تسري بجسدها، بينما شهقت بالبكاء وهي تقول بصوت مخنوق:


ــ "أنا خايفة قوي... الدكاترة بيقولوا حالته خطيرة جداً."


شعر بسعادة خبيثة تتفجر بداخله، لكنه أخفى ذلك ببراعة، ليواصل تظاهره بالطيبة وهو يزيل دموعها برفق مصطنع:


ــ "أنا واثق إنه هيبقى كويس... أخويا قدها وقدود."


أومأت برأسها بتردد، وعيناها لا تزالان تغرقان بالدموع، ثم عادت إلى مراد، تحتضنه بقوة كأنها تخشى أن تفقده هو الآخر.


مر الوقت ببطء خانق، حتى خرج الطبيب أخيرًا، ملامحه غارقة في الحزن، رأسه منكس إلى الأرض.


ركض الجميع نحوه بلهفة، بينما انقبض قلب عليا من ملامحه، وهتفت بانفعال شديد:


ــ "طمني... بابا عامل إيه دلوقتي؟!"


أجابها الطبيب بتوتر وخيبة:


ــ "الحادثة كانت صعبة جداً... حاولنا ننقذه بكل الطرق... بس أمر الله نفذ... البقاء لله."


ساد الصمت القاتل المكان، قبل أن ترتفع صرخة مدوية من حنجرة علياء، لتسقط بعدها فاقدة للوعي بين ذراعي شقيقها مراد، الذي أجهش بالبكاء بلا توقف.


أما فريد، فكان يقف يراقب المشهد، وقلبه يرقص فرحاً من الداخل، وإن بدا ظاهريًا حزينًا كسائر الحاضرين.


مرت الأيام تجرّ خلفها الحزن، وأقيمت مراسم العزاء، حتى جاء المحامي الخاص بالعائلة لينهي إجراءات الميراث.


حينها، حلّت على فريد صدمة مدوية؛ إذ اكتشف أن شقيقه قد سجل كل ثروته باسم ابنته عليا، ولم يترك له سوى المنزل الذي يسكنه.


امتلأ قلبه بالحنق والضغينة، وبدأت خيوط مؤامراته تُنسج بخبث، يفكر في التخلص من عليا ومراد ليظفر بالثروة كاملة.


خطط لحادثٍ مدبر أودى بحياة مراد ظاهريًا، بينما فشلت محاولاته المتكررة للنيل من علياء.


واليوم، وبعد كل هذه السنوات، يكتشف أن مراد حيٌّ يُرزق، وأن وفاته كانت مجرد كذبة حيكتها عليا ببراعة لحمايته.


«نهاية الفلاش باك» 


عاد إلى وعيه على صوت اهتزاز هاتفه، نظر إليه ليجد عشرات المكالمات من زوجته، لكنه أغلق الهاتف ببرود وألقاه بعيداً.


أسند رأسه إلى الوراء، وسحب نفسًا عميقًا من سيجارته، بينما عيناه تشتعلان بالحقد والغضب وهو يغرق من جديد في دوامة خططه الشيطانية.


******


بعد انتهاء الحفل، عادت علياء إلى غرفتها بخطوات متثاقلة، وكأن جسدها يحمل فوقه جبالًا من الأحزان. دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها، ثم ارتمت على الفراش بإنهاك، تغمرها الذكريات من كل جانب.


استلقت في سكون، تحدق بالسقف بعينين ذابلتين، بينما تتوالى أمامها مشاهد لم تفارق مخيلتها... نظرات بدر نحوها التي امتلأت بتساؤلات موجعة، ورغده التي كاد بطنها البارز يعلن عن اقتراب موعد ولادتها، لتشعر علياء بوخز حاد في قلبها، واختناق يحاصر صدرها.


أغمضت عينيها بقوة، محاولة إبعاد الذكريات، لكن عقلها خانها، وسحبها إلى ذكرياتٍ أليمةٍ لكنها دافئة في آنٍ واحد...


(فلاش باك)


كانت تسير بجواره على الشاطئ، يدها الصغيرة تحتضن يده الكبيرة بحب، تشعر بأمانٍ لا يوصف. جلسا معًا على إحدى الصخور، يتابعان غروب الشمس، حين تلوّنت السماء بألوان البرتقال والذهبي، في مشهد ساحر ينبض بالسكينة.


التفتت علياء حين سمعت ضحكات طفلة صغيرة تركض بجوار والديها، لترتعش مشاعرها فجأة بحزنٍ دفين؛ فطيف الاشتياق لطفلٍ يملأ حياتها كان يطاردها ليلًا ونهارًا.


مرت بأناملها المرتجفة على يد بدر، التي لم تفلتها لحظة، وقالت بصوت خافت متردد:


ــ "بدر... أنا عايزة أروح للدكتور."


انتفض بدر بجانبها على الفور، وارتسم القلق على ملامحه، وردد بتوجس:


ــ "ليه، مالك يا حبيبتي؟ حاسة بحاجة؟"


ابتسمت له بمرارة ممزوجة بحنان، وضمت جسده إليها وكأنها تستمد منه قوتها، وهمست تطمئنه:


ــ "مفيش حاجة، متخافش. كل الحكاية إن الحمل اتأخر... وكنت عايزة أطمن، بس مش أكتر."


اقترب منها بدر أكثر، ثم طوقها بين ذراعيه بحنان يغمره التملك، ودفن وجهه في عنقها، يشتم عبيرها كمن يحاول أن يسرق منها الأمان. مرت يده على ظهرها ببطءٍ وعشق، ثم قال بصوت دافئ عميق:


ــ "تمام يا روح بدر... روحي واطمني، بس عايزك تعرفي إنك مهما كانت النتيجة، هتفضلي أغلى حاجة في دنيتي كلها."


(عودة للواقع)


هربت الدموع من عيني علياء رغمًا عنها، تتساقط على وجنتيها بصمت موجع. شعرت وكأن روحها تتمزق من الداخل، وكأن قلبها يُعتصر بيدٍ غليظة من الألم والغضب.


كيف له أن يقسو عليها بهذا الشكل؟! كيف لم يمنحها فرصة واحدة لتبرر له، أو لتدافع عن نفسها؟!


مسحت دموعها سريعًا بكفها المرتجف، وكأنها تريد أن تمحو معه كل ذكرياتها معه. نهضت من مكانها بثقل، واتجهت إلى المرحاض، علّ الماء البارد يغسل عنها شوائب هذا اليوم الثقيل.


اغتسلت تحت رذاذ الماء، تاركة له أن يهدئ ارتجاف جسدها ويطفئ نار قلبها.


وبعد أن انتهت، عادت إلى غرفتها، استلقت على الفراش بجسدٍ متعب وعقلٍ مثقل بالهموم، لتستسلم أخيرًا للنوم، وقد أغرقت أفكارها في بحور الألم والحنين.


******


في صباح اليوم التالي، هبطت علياء إلى الطابق السفلي متوجهة إلى المطعم الخاص بالفندق، حيث كان مراد وحياة ينتظرانها لتناول الإفطار.


خطت نحو طاولتهما بخطوات متزنة، وألقت عليهما التحية بابتسامة مجهدة قبل أن تجلس برفق، تحاول أن تخفي توترها الداخلي.


التفتت نحو حياة، وسألتها بعفوية مشوبة بالقلق:


ــ "عاملة إيه دلوقتي يا حبيبتي؟ بقيتي أحسن؟"


أومأت حياة برأسها، وردّت عليها بابتسامة دافئة:


ــ "الحمد لله يا لولو، بقيت كويسة جدًا."


ابتسمت علياء لها بحنان، ثم مالت برقة نحو زين، ذاك الطفل الذي أسر قلبها ببراءته، وطبعَت قبلةً خفيفة على وجنتيه الممتلئتين، مرددة بمشاعر جياشة:


ــ "حبيب عمتو يا ناس... إيه الجمال دا كله؟!"


ثم تابعت بحماس طفولي، محاولة أن تبث الفرح في الأجواء:


ــ "عايزاك تخلص كل الأكل دا عشان هاخدك ونروح نلعب في البحر!"


صفق الصغير بسعادة بريئة، وانهمك في تناول طعامه، بينما تبادل الجميع الابتسامات وأكملوا تناول الإفطار وسط أجواء هادئة.


مرت لحظات قليلة، قبل أن تتجمد علياء مكانها وهي ترى رغده تدخل المطعم، تسير بجوار بدر، بينما كانت الأخيرة تتعمد التشبث بذراعه محاولة إثارة غيرتها.


رفعت علياء حاجبيها بدهشة ساخرة، تقاوم رغبتها العارمة في النهوض والانقضاض عليها، لكنها تماسكت بقوة، محاوِلة تجاهل المشهد المهين.


جلس بدر بجوار رغده، وأمسك بقائمة الطعام، يحاول التركيز في اختياراته، لكن عينيه خانتاه، والتفت دون وعي يبحث عنها...


رآها، كما عهدها دومًا... تجلس بالقرب منه، بجوار امرأة غريبة تطعم طفلًا صغيرًا كان قد رآه في الحفل بالأمس.


تسارعت دقات قلبه بشكل مؤلم وهو يراها تبتسم للصغير، تغمره بحنانٍ وسعادة لم يرها من قبل في عينيها.


حاول بدر أن يعود بعينيه إلى القائمة التي بين يديه، أن يحبس ضعفه في صدره، لكن عقله كان يدور بألف سؤال وسؤال... من هذا الطفل؟ ومن تكون هذه المرأة؟ ولماذا لم تخبره عليا بشيء؟!


على الجانب الآخر، كانت علياء تشعر بنظراته الحارقة تخترقها بقسوة، فتململ قلبها بارتباك مؤلم.


حاولت أن تغرق في الحديث مع حياة ومراد، تحتمي بكلماتهما من تلك النظرات التي تزلزل كيانها، لكنها لم تنجح تمامًا... ظلت تشعر به يراقبها، كأنما يريد أن ينطق بعينيه بكل ما أخفاه لسانه.


مرت دقائق ثقيلة، حتى وصلتها فجأة رسالة على هاتفها...


فتحتها، لتخرج عيناها من محجريهما من شدة الصدمة. شحب وجهها حتى غدا كالأموات، ثم انتفضت واقفة بفزع وهي تصرخ بنبرة مرتعشة:


ــ "مراد! اطلع بسرعه، لم هدومك إنت وحياة... هنرجع دلوقتي! ومش عايزة أي نقاش، يلا!"


لم تنتظر ردًّا، بل هرعت إلى المصعد وصعدت إلى غرفتها، تلتقط أغراضها بسرعة مضطربة، كأنها تهرب من شيء يطاردها.


جلست تنتظر مراد وهي ترتجف من فرط التوتر، وما هي إلا دقائق حتى جاء يدق بابها بقوة.


فتحت له، لتقابل عينيه الغاضبتين، وهو يقول بلهجة ممتلئة بالحدة:


ــ "أنا خلصت... في أوامر تانية؟"


رسمت على وجهها قناعًا من القوة المزيفة، وأجابته بجمود:


ــ "وأنا كمان خلصت... يلا بينا."


سارت أمامه بخطى ثابتة ظاهريًا، بينما كان قلبها يتخبط داخل صدرها كالطير المذبوح.


هبطوا معًا إلى حيث السيارة، لكنها توقفت فجأة حين سمعت صوته القوي يناديها... تجمدت في مكانها، وجسدها ينتفض من القشعريرة التي سرت في أوصالها.


اقترب منها بدر بخطوات سريعة، وأمسك بيديها بقوة لم تستطع الفكاك منها، وحدق في عينيها بغضب متأجج وهو يوجه كلامه نحو مراد بتحذير:


ــ "أنا عايز أتكلم معاكي."


نزعت يديها بعنف من قبضته، ورمقته بنظرة مشتعلة بالغضب والقهر، وقالت بانفعال مكتوم:


ــ "مفيش بينا كلام يا بدر... خلاص، كل حاجة انتهت."


استدارت تمسك بيد مراد، وهمّت بالصعود إلى السيارة، لكن بدر لم يتحمل الموقف...


قبض بيده القوية على ذراع مراد، وجذبه نحوه بعنف، ثم سدد له لكمة قوية أسقطته أرضًا أمام الجميع.


تجمد المشهد، وساد الذهول وجوه الحاضرين.


أسرعت علياء نحو مراد تهرع للاطمئنان عليه، لكنها صُدمت حين قبض على يدها يمنعها، ثم صرخ في وجهها بغضب مهتز:


ــ "بكل بجاحة تخونيني... ودلوقتي جايه قدام الكل معاه؟!"


شهقت علياء من وقع اتهامه الظالم، ثم أمسكته من مقدمة قميصه بعنف، وعينيها تلمعان بالدموع والقهر، وهتفت بانفعال خانق:


ــ "أنا مش خاينة يا بدر!


اللي انت بتتكلم عنه دا... دا أخويا!


أخويا اللي إنت ما اديتنيش فرصة أقولك مين، ونزلت فيا ضرب، ورميتني قدام القصر بتاعك وأنا بنزف من كل حتة!"


تسمر بدر في مكانه كالصنم، كأن صاعقة ضربته في قلبه.


شحب وجهه فجأة، وأحس أن الأرض تهتز من تحته، ولسانه انعقد داخل فمه وهو يحاول أن يتكلم بصعوبة بالغة:


ــ "إزاي...؟!"


أجابته بصوت متحشرج، تحاول السيطرة على دموعها التي لم تعد تحتمل:


ــ "مش مطلوب مني أبررلك أي حاجة...


إنت خلاص، بقيت برا حياتي."


ابتعدت عنه بخطوات ثابتة رغم الألم الذي يكاد يفتك بها، تاركة إياه خلفها غارقًا في صدمة لم يعرف لها مثيل.


من بعيد، كان هناك شخص يراقب المشهد من خلف منظار قناص.


ثبت البندقية بين يديه بثبات قاتل، ثم حدد هدفه بدقة...


أطلق الرصاصة، لتنطلق صافرة الموت... وتصيب...


♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕



قلوب لاترمم

الفصل الرابع والاخير 


كانت تقف أمام غرفة الطوارئ التي أُدخل إليها بدر منذ أكثر من ساعة، تحاول عبثًا السيطرة على ارتجاف جسدها وارتعاش يديها وقلبها الذي كان يعصف بداخله الخوف والقلق. انعقد صدرها ألمًا وهي تستعيد في ذاكرتها اللحظة التي استقبل فيها بدر الرصاصة بدلًا عنها، ليسقط بين ذراعيها كجسدٍ هامدٍ، والدماء تنزف منه بغزارة وتغرق الأرض من حولهما. 

شعرت بيدٍ دافئة تُربت على كتفها برفق، فرفعت رأسها لتلتقي بنظرات مراد، الذي حاول تهدئتها، لكن عينيها لمعتا بالدموع التي خذلتها وكادت تنهمر. 

على الجانب الآخر، كانت عائلة بدر غارقة في دوامة من الانهيار والبكاء، وقد بدا الحزن واضحًا على ملامحهم. أما رغدة، فكانت تطالع علياء بنظرات غاضبة حادة، تملؤها الكراهية والاتهام، تراقبها بين الفينة والأخرى بشراسة ظاهرة. 

مرّت دقائق بدت كسنوات، حتى هرع الجميع، ومن بينهم علياء، عندما رأوا الطبيب يخرج من غرفة الطوارئ. تقدمت نحوه بخطوات متعثرة وقلبٍ يكاد يتوقف، وقالت بصوت مرتجف تغلفه رهبة قاتلة: 

– طمّني يا دكتور... بدر عامل إيه؟ 

أجابها الطبيب بهدوء يفتقر للعجلة: 

– ماتقلقيش يا بنتي، هو كويس والحمد لله... الرصاصة أصابت الكتف بس، ودلوقتي هينقلوه على الأوضة. 

كأن ثقلاً هائلاً أزيح عن كاهلها، فتسلل إلى قلبها شعور عارم بالراحة والامتنان. استدارت لتواجه العائلة، لكنها فوجئت برغدة تهجم نحوها، تمسك بذراعيها بعنف وتصرخ بحدة غاضبة: 

– مش خلاص اطمنتي؟ امشي من هنا بقى! كفاية المصايب اللي جت من وراك! 

تصلبت علياء في مكانها، ثم نزعت يديها بقوة من قبضة رغدة، واقتربت منها خطوة بخطوة بملامح مشدودة وشرر الغضب يتطاير من عينيها، حتى اضطرت رغدة إلى التراجع خوفًا. زمجرت علياء بشراسة وهي تعض على شفتيها وتجزّ على أسنانها من الغيظ: 

– مش واحدة زيك اللي تقول لي أمشي... فاهمة؟ ولحد ما بدر يفوق، مش عايزة أسمعلك صوت! 


نظرت رغدة إلى الجميع طلبًا للمساندة، لكنها لم تجد سوى الصمت والبرود في وجوههم، فأدركت أنها وحيدة في معركتها وخاسرة لا محالة، فانكمشت وجلست بعيدًا تراقب الموقف بغضب مكتوم. 

أما علياء، فاندفعت بخطوات مترددة نحو غرفة بدر، يقودها قلبها الذي يتخبط بالألم والحنين. دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها بهدوء، فتسمرت عيناها على بدر، الممدد فوق السرير، شاحب الوجه، غارق في سبات عميق. 

اقتربت منه ببطء، وجلست على الكرسي المجاور، عيناها تجولان في ملامحه وكأنهما تبحثان عن الحياة فيه. مدت يدها المرتجفة وأمسكت بكفه الدافئ، ثم رفعته إلى شفتيها وقبّلته برقة ودموعها تنساب في صمت موجع. 

لم يكن بدر نائمًا تمامًا... كان يشعر بها، بألمها ولهفتها، منذ أن لامست يده. أغلق عينيه متصنعًا النوم، فقط ليستمتع بقربها، برائحتها، بدفء حضورها الذي اشتاق إليه حد الوجع. 

وفجأة، انكسر الصمت، وسمعها تهتف بصوت متهدج بالبكاء: 

– أنا مش خاينة يا بدر... بالعكس، أنا أكتر واحدة حبتك... أنت كنت أول حب في حياتي، وأول نبضة فرح دقت في قلبي. 

سقطت كلماتها على روحه كطعنات دامية. ظلت تتابع، تتحدث بينما تتخلل شهقاتها حديثها: 

– ماكنتش متصورة إنك ممكن تظلمني كده... تحكم عليا من غير ما تسمعني أو تعرف الحقيقة... مراد... مراد ده أخويا الصغير، حبيبي، سندي بعد موت بابا. لما عمي عرف إن بابا كتب كل حاجة باسمي، حاول يخلص مني... ونجح... حصلت حادثة، كنت أنا ومراد مع بعض. أنا طلعت سليمة... بس مراد... أصيب بإعاقة لفترة طويلة. 

أخذت نفسًا عميقًا، تحاول تثبيت صوتها المرتجف، ثم أكملت: 

– خفت عليه... خفت يضيع مني زي بابا. فقررت أني أقول إنه مات... كان لازم، عشان عمي مايحاولش يؤذيه تاني. سافر يتعالج، وأنا بقيت لوحدي أحاربهم... ولما شوفتك، حسيت إن ربنا بعتك لي. بس خفت... خفت أقولك فتخسرني، أو تأذيك أنت كمان. واضح إن القدر كان له كلمة تانية. 

كانت الكلمات تخرج منها كأنها تطهر روحها من ألمٍ خنقها طويلاً. بينما كان بدر يشعر بكل كلمة تسري في عروقه كحمم من الندم والشوق والخذلان. 

نهضت علياء بعد أن ألقت باعترافها فوق صدره كهمس موجوع، مسحت دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، واستدارت لتغادر، لكن قبل أن تغلق الباب خلفها، رمقها بدر بنظرة تحمل كل الذنب والحب والحسرة. 

ابتلع غصته الثقيلة التي كانت تخنق حلقه، بينما ظلت رائحتها، وصدى كلماتها، يتردد داخله كوشمٍ أبدي لا يمحى. 

******* 

خرجت من الغرفة بخطوات ثقيلة، وعيناها مغمورتان بظلٍ قاتم من الحزن والألم. وجدت الجميع يجلس في صمتٍ مشحون بالقلق، كأن أنفاسهم معلقة بين رجاء وخوف. اقترب منها مراد بتردد واضح، وعيناه تترجمان مزيجًا من الحيرة والاهتمام، ليقول بصوتٍ خافت متوتر: 

– أنتي كويسة؟ 

اكتفت بهزة بسيطة من رأسها، دون أن تنطق بكلمة، ثم تابعت سيرها أمامه بصمت مطبق، يغلفها جدار عالٍ من البرود والانطواء. لم يجد مراد سوى أن يلحق بها بصمت، يحمل داخله قلقًا متزايدًا من هذا الهدوء الغريب الذي ينبئ بالعاصفة. 

وصلا إلى السيارة، استقلت المقعد الأمامي وهي تجلس مستقيمة، تطوي ذراعيها أمام صدرها كأنها تحتمي من العالم كله. جلس مراد إلى جوارها، لا يتوقف عن مراقبتها بطرف عينيه، ذلك السكون القاتل الذي يخيم عليها كان يخيفه أكثر مما لو رأى دموعها تنهار. 

قطع هذا الصمت المطبق رنين هاتفها، تناولته بهدوء بارد، وردّت بصوت خفيض خالٍ من الحياة: 

– الحمد لله يا أونكل... أنا بخير... ومراد كمان بخير... كله تمام. 

أسندت رأسها قليلًا للخلف، ثم أكملت مكالمتها بصوت متهدج بالكاد يُسمع: 

– زي ما فهمت حضرتك... إيه اللي هيحصل دلوقتي؟ 

أنهت المكالمة بسرعة، دون أن تشرح أو تفسر لمراد، الذي كان يتطلع إليها بدهشة واستفهام حائر عن هوية المتصل وماهية الحديث الغامض. لكنها أعادت الهاتف إلى حقيبتها وعادت إلى صمتها، تغرق في تأمل الطريق عبر نافذة السيارة وكأنها تحاول الهروب من واقعها المؤلم. 

مضت لحظات ثقيلة من الصمت، حتى توقفت السيارة أمام الفندق. التفتت إليه بعزم حاسم ونظرة مبللة بالحزن، وقالت بنبرة قوية تخفي خلفها انكسارًا مريرًا: 

– اطلع أنت... أنا ورايا مشوار لازم أخلصه، وهرجع على طول. 

رفع مراد حاجبيه بدهشة واحتجاج، ليقول مستنكرًا: 

– مشوار إيه دلوقتي؟! 

نظرت إليه بعينين غارقتين في الحزن، وأجابت بصوت مختنق بالانفعال: 

– مراد... أنا مش مستحملة أي أسئلة خالص دلوقتي... لو سمحت، نفذ اللي بقولك عليه من غير نقاش. 


صدمته نبرتها الحادة، لكنه أمام نظرتها المنكسرة، لم يجد في قلبه الجرأة ليجادلها. أومأ برأسه بالإيجاب ببطء، وترجل من السيارة، يغلق الباب خلفه بعنف خفيف تنفّس خلاله عن غضبه وقلقه العاجز. 

أشارت علياء إلى السائق بصوت خافت: 

– اتحرك. 

وانطلقت السيارة تحملها نحو وجهة أخرى، تحمل في طياتها أسرارًا وآلامًا لم يُكشف عنها بعد. 

******* 

صعد مراد إلى غرفته بخطوات سريعة يملؤها الغضب، وعيناه تومضان بشرر مكبوت، وملامحه مشدودة كوترٍ على وشك الانفجار. استقبلته حياة بتوتر ظاهر، وجسدها ينتفض بخوفٍ مكتوم، لتسارع بالهتاف بقلق شديد: 

– طمّني يا حبيبي... بدر عامل إيه دلوقتي؟ 

جلس على طرف السرير بانهاك، وأسند رأسه إلى كفيه لحظات قبل أن يجيب بصوتٍ ثقيل، يخنقه القلق: 

– الحمد لله... حالته مش خطيرة. 

تنفست حياة الصعداء، وزفر صدرها المثقل بالقلق، ولكن سرعان ما عادت لتسأل بنظرة حائرة، تتفحص وجهه المتجهم وعينيه المضطربتين: 

– أمال علياء فين؟... وانت شكلك متعصب كده ليه؟ 

زفر مراد بقوة، كمن يحاول طرد مرارة تختنق في صدره، ثم أردف بنبرة ممتلئة باليأس والغضب: 

– الهانم وصلتني لحد الفندق... وبعدها قالت إنها عندها مشوار ضروري... طبعًا ما قالتش أي حاجة... بس أنا متأكد إن الموضوع له علاقة باللي حصل... وبعمي. 

اقتربت حياة وجلست بجواره بهدوء، تربّت على يده برفق محاولة تهدئة ذلك الغليان الذي يعصف بقلبه، وهي تهمس بحنوّ: 

– حبيبي... ما تقلقش، إن شاء الله كله هيكون بخير. أنا كلمت بابا وهو هيتابع معاها كل حاجة. 

أومأ برأسه ببطء، كأنه يحاول أن يصدق كلماتها، ولكن أعماقه كانت تضج بالخوف والقلق عليها. كانت صورة شقيقته تتراقص أمام عينيه، شاحبة مهددة بالخطر، ليشد قبضته بعنف فوق ساقه، محاولًا كبح ارتعاش قلبه الذي كاد ينفلت من صدره رعبًا عليها بعد أن ذاق مرارة الشعور بفقدها أثناء محاولة قتلها. 

ظل صامتًا، يتأمل الفراغ أمامه بعينين غارقتين في عاصفة من المخاوف، فيما بقيت حياة تمسك بيده، تبثه طمأنينة زائفة، تخشى أن تنهار بدورها إن بادرها بشكواه المكتومة. 

******* 

وصلت علياء إلى الفندق وقد بدت ملامحها جامدة، لكنها في أعماقها كانت تغلي كبركانٍ على وشك الانفجار. ترجلت من السيارة بخطوات ثابتة، تسير نحو الداخل وكأنها تسير نحو معركة فاصلة. سألت عن رقم الغرفة، ثم صعدت إليها دون تردد. 

توقفت أمام الباب، وضغطت على الجرس، انتظرت بضع ثوانٍ كانت تمر عليها كأنها دهر، فيما نيران الغضب تشتعل بين أضلعها، لكنها أجبرت نفسها على التماسك، فاليوم ليس للانفعال، بل لإنهاء كل شيء. 

فُتح الباب ليظهر أمامها وجهه، مصفرًا بعض الشيء، متوتر النظرات. وقفت أمامه بثقة وثبات، نظراتها تخترقه كالسهم. دون أن تمنحه فرصة للكلام، دفعته بكتفها بقوة ودلفت إلى الداخل، لتجلس على الأريكة واضعة ساقاً فوق الأخرى، وكأنها في مواجهة محسومة نتيجتها سلفًا. 

أغلق الباب بعنف، وتقدم نحوها وهو يصرخ بغضبٍ أجوف: 

– جايه عايزة إيه يا بنت أكرم؟ 

نهضت واقفة بكل شموخ، وأطلقت نظرة نارية من عينيها المتقدتين، قبل أن ترد ببرودٍ قاتل: 

– جاية عشان نخلص من لعبة القط والفأر دي... ونصفي حساباتنا، من أول موت أبويا... وأظن إنك عارف كويس عملت إيه. 

اصفر وجهه، وتلعثم لسانه من الصدمة والخوف، قبل أن يتمتم بارتباك: 

– قصدك إيه؟ وضحي كلامك. 

ابتسمت بسخرية مُرّة، وتقدمت نحوه خطوة بخطوة، تضغط عليه بكلماتها كما يضغط الصياد على فريسته: 

– طول عمرك بتغير منه... من نجاحه، من حبه للي حواليه، من إنه دايمًا كان الأحسن منك... كنت أناني وطماع، ومع ذلك أبويا كان بيرحمك، بيسامحك، وبيقف جنبك... ومع كل ده... قتلته! 

صرخ فجأة بغضبٍ أسود، وخرجت كلماته محملة بالحقد القديم: 

– أيوه!! قتلته... كان بياخد مني كل حاجة... حب أمي وأبوي، نجاحه، الناس، الشهرة، الحب... كل حاجة كانت له هو وأنا كنت مجرد ظل ليه! كان لازم يختفي... كان لازم آخد مكانه... لكن حتى في موته خانني! كتب كل حاجة ليكي... وحتى لما حاولت اقتلك... فشلت! لكن المرة دي... مش هفشل. 

ابتسم ابتسامة حاقدة كأنها نصل مسموم، وأخرج سلاحه فجأة، مصوبه إلى رأسها بوحشية: 

– دلوقتي... هقتلك... وتلحقي أبوكي... وبعدها أخلص على مراد! 

رغم الخطر المحدق بها، ابتسمت علياء بسخرية هادئة جعلته يتراجع للحظة، وما لبثت أن تفاجأ بانفجار الباب بقوة، واندفع رجال الشرطة إلى الداخل، فخفض سلاحه بغريزة المذعور، قبل أن ينقضوا عليه ويكبلوه. 

اقتربت علياء بخطوات بطيئة، ووجهها يقطر احتقارًا وكراهية، وقالت بصوت ثابت يقطر مرارة: 

– ودلوقتي... جه وقت انتقامي يا عمي العزيز. هتعفن في السجن طول عمرك... سلام يا عمي. 

صرخ بعنف وهو يُسحب بعيدًا مكبّل الأيدي، ولكن لم يعد لصوته أي قوة... كان مجرد صدى لانكسارٍ لا رجعة فيه. 

وقف جلال – صديق والدها الذي كان يتابع الخطة معهم – يراقب المشهد، وعيناه تغيم بالحزن. اقترب منها يربت على كتفها بحنانٍ أبوي، وهي تنفجر باكية، دموعها تنهمر كالسيل وهي تهتف بألم: 

– مش قادرة أصدق كمية الحقد والغل ده... بابا طول عمره كان بيحبه وبيوقف جنبه... 

ضمها جلال إليه بحنان وقال بصوت مبحوح بالحزن: 

– الحقد والغيرة يا علياء... بيخلوا الواحد يقتل حتى أقرب الناس ليه... ويفقد إنسانيته. الحمد لله إننا قدرنا نمسكه... ده متورط في قضايا فساد تانية كمان... الحمد لله إنك بخير... وإنك ومراد نجيتوا من شره. 

أومأت برأسها، وابتسامة باهتة ترتسم على وجهها المتعب، شعور بالراحة الغامرة يغمرها، وكأنها أخيرًا استطاعت أن تتنفس بعد سنوات من الخوف والرعب... أخيرًا انتهى الكابوس. 

******* 

بعد أن أنهت علياء الإدلاء بأقوالها في القسم، وأُغلقت القضية بإثبات تورط فريد واعترافه الكامل بجرائمه، خرجت من مبنى الشرطة. كانت خطواتها مثقلة، لكن صدرها أخيرًا قد تنفس راحة افتقدتها طويلاً، وكأنها تخلّصت من حمل ثقيل ظلّ يؤلمها لسنوات. 

استقلت السيارة بصمت، وأسندت رأسها إلى الزجاج البارد، تغمض عينيها المثقلتين بالدموع، تترُك للذكريات المؤلمة أن تمر أمامها للمرة الأخيرة... ذكريات والدها، ومراد، وكل الخوف الذي حاصرها حتى لحظة الخلاص. 

توقفت السيارة أمام الفندق الآخر، فتحت الباب ببطء، وهبطت بخطوات هادئة نحو المصعد، يرافقها صمت عميق لا يقطعه سوى دقات قلبها المتسارعة. 

عندما وقفت أمام باب غرفة مراد، ترددت لحظة... أخذت نفسًا عميقًا، ثم طرقت الباب بخفة. 

فتح مراد الباب بسرعة، وعيناه المتسعتان بالقلق تحومان عليها. ما إن رآها واقفة أمامه، حتى سقطت أنفاسه الثقيلة من صدره وتنفس بارتياحٍ عميق، ثم جذبها إلى حضنه في عناقٍ دافئ، يشبه العناق الذي يخبئ خوف الأيام كلها. 

– حمد لله على سلامتك يا علياء... كنت هموت من القلق عليكِ! 

قالها وهو يضمها بقوة أكبر، كأنه يخشى أن يتركها فتختفي مجددًا من حياته. 

ابتسمت علياء ابتسامة مرتعشة وهي تدفن وجهها في صدره، وتهمس بصوت متهدج تغلبه الدموع: 

– خلاص يا مراد... الكابوس انتهى... خلاص. 

أبعدها برفق قليلًا ليتأمل وجهها، وكأنه لا يصدق أنها بخير، ثم قال بنبرة مختنقة بالخوف والاشتياق: 

– ما كنتش قادر أتنفس من غيرك... كنت خايف أفقدك زي ما فقدنا بابا. 

مسحت دموعها بطرف أصابعها المرتجفة، ثم هزت رأسها مطمئنة إياه: 

– أنا بخير... علشانك... وعلشان بابا اللي ضحى بحياته عشان يحمينا. 


جلسا معًا على الأريكة، مراد لا يترك يدها لحظة، وكأنها خيطه الأخير بالأمان. كانت نظراته مملوءة بالحزن والاطمئنان، بينما هي تشعر أخيرًا أن ظهرها لم يعد عارياً من السند. 

قالت له بعزم وقوة، والنور يلمع في عينيها: 

– إحنا اتكتب لنا بداية جديدة، يا مراد... وبوعدك، هنعيشها زي ما بابا كان بيتمنى لينا. 

شد على يدها بحنان أخوي عميق، وقال بنبرة دافئة: 

– وأنا بوعدك، يا علياء... طول ما أنا عايش، مش هيحصلك حاجة وحشة تاني. 

ابتسمت ابتسامة صغيرة، ولكنها كانت مليئة بالأمل، وهي تشعر لأول مرة منذ سنوات أن الحياة أمامها فتحت أبوابها... وأن الخوف الذي كان يعشش بقلبها، قد رحل أخيرًا. 

****** 

بعد مرور ثلاثة أيام 

كانت تسير على الشاطئ بخطى بطيئة، تستمتع أخيرًا بنسمات الهواء العليلة التي تلامس وجهها برفق، وكأنها تواسي قلبها المثقل. منذ أكثر من خمس سنوات لم تشعر بهذه الراحة، تلك الراحة الغريبة التي تسللت إلى أعماقها بعد أن أسدلت الستار على كابوسٍ طال أمده. 

جلست على الرمال، عانقت البحر بنظراتها الشاردة، أغمضت عينيها قليلًا واستنشقت عبق ملوحته، وكأنها تبحث عن طمأنينة ضائعة بين أمواجه. فتحت عينيها فجأة، لتجده هناك، جالسًا بجوارها على الرمال، كما لو أن حضوره قد استدعيه حنينها دون إرادة. 

خفق قلبها بعنف داخل صدرها، كاد أن يقفز من مكانه، لكنها تمالكت نفسها، ارتدت قناع القوة الذي بات رفيقها في الآونة الأخيرة، ونظرت أمامها دون أن تلتفت إليه، قائلة بنبرة حاولت أن تبدو ثابتة: 

ــ جاي ليه يا بدر؟ 

مرر يده على شعرها بحنانٍ مكسور، وصوته يتهدج بندم عميق: 

ــ جاي أرجع حبيبتي لحضني تاني... وأقولها إني كنت غبي واتسرعت في الحكم عليها... ومستعد لأي عقاب تحكم بيه عليّ. 

ابتلعت غصة مُرة، وردت بهدوءٍ مصطنع يناقض الألم الذي ينهش قلبها: 

ــ مش هينفع يا بدر... كل اللي بينا خلاص انتهى. ياريت تنسى... وتكمل حياتك مع مراتك وابنك اللي جاي. 

خرجت من صدره زفرة قوية، بدت كأنها تحمل كل ثقل ندمه وألمه، ثم قال بحرقة: 

ــ علياء... أنا عارف إني جرحتك وظلمتك... بس والله العظيم بحبك... وعمري ما حبيت رغدة... كانت غلطة، وكل حاجة فيها غلطة. أرجوكي سامحيني... تعالى نرجع نكمل حياتنا اللي كنا بنحلم بيها. 

نهضت من فوق الرمال دفعة واحدة، وقفت أمامه تتحدى رجاءه بعينين غارقتين في العتاب، فنهض هو الآخر مرتبكًا، يتشبث بأملٍ أخير، لكنها صاحت بغضب جارف: 

ــ قلتلك خلاص! اللي بينا انتهى! ياريت تفهم بقى... وتبطل تيجي ورايا في أي مكان... فاهم ولا لأ؟ 

استدارت لتغادر، لكن صوته المذبوح لحق بها، ويده قبضت على ذراعيها بقوة مستجدية: 

ــ مش هسيبك يا علياء! أقسم بالله إني ندمان... مستعد أمشي في الشوارع وأعتذر قدام الناس كلها عشانك... بس أرجوكي... سامحيني! 

نزعت يديها من قبضته بحركة حاسمة، وعادت تتحدث بهدوء غريب، هدوء يقطر وجعًا: 

ــ مش هقدر دلوقتي يا بدر... إنت من الأول ما وثقتش فيا... أول ما حصلت مشكلة سبت إيدي... أنا مش هقدر أأمنك على قلبي تاني... ارجع لمراتك وكمل حياتك معاها... وإنساني. 

ثم استدارت وغادرت، بينما دموعها تنهمر بلا مقاومة، تغسل وجهها من كل أمل كاذب، ومن كل ذكرى موجعة. كانت خطواتها تغوص في الرمال الثقيلة، وكأن الأرض تأبى أن تسهل عليها الرحيل. 

أما بدر، فقد شعر وكأن الحياة انسحبت من جسده، وعينيه تتابعانها وهي تبتعد. كان الألم يغرس أنيابه في قلبه بلا رحمة، والسواد يطغى على كل شيء حوله. سقط على الرمال بصمتٍ مريع، جلس هناك كمن أضاع كل ما كان يمنحه المعنى للحياة. 

دموعه انسابت من عينيه بغزارة، وكأنها تُطهره من ذنوبه التي لا تُغتفر، بينما صدره يعلو ويهبط بانكسار. كان يشعر وكأن سكينًا باردًا يمزق قلبه ببطء، يذبحه على مهل، ومع كل نبضة كان يفقد المزيد من روحه. 


ظل جالسًا، تائهاً بين رمال الشاطئ وصدى كلمتها الأخيرة يضرب رأسه بعنف، يدرك أنه خسرها للأبد... خسرها يوم أن خان ثقته بها، ولن يعيدها ندمٌ ولا اعتذار.


قلوب لاترمم

الخاتمة 


بعد مرور ثلاث سنوات... 

في مدينة ساحلية صغيرة، جلس بدر على مقهى قديم يطل على البحر. الهواء كان محملًا برائحة الملح، وصوت الأمواج يتلاطم على الشاطئ القريب. كان المساء ينزل ببطء، يغلف الدنيا بلون رمادي خافت. 

أمام بدر، كوب قهوة بارد لم يمسّه. 

وفي حضنه، جلس ابنه يوسف، يتأمل الطريق بعينيه الواسعتين. 

مرت السنوات عليه ثقيلة، تحمل بين طياتها كل وجع الأيام الماضية. تعلم كيف يعيش بكسور قلبه، كيف يبتسم لابنه رغم الحزن الساكن في عينيه. لم ينسَ علياء يومًا، لم يمر يوم دون أن تمر صورتها في خياله، لكنه تعلم أن الحب وحده لا يكفي حين تغادر الثقة. 

مرر يده على شعر يوسف بحنان، وهمس لنفسه وكأنه يحكي حكاية لم يكتمل فصلها: 

ــ الحب محتاج قلبين بيصدقوا بعض... مش بس قلبين بيحبوا. 

في نفس اللحظة، ولكن على بُعد مئات الكيلومترات، كانت علياء تجلس على شرفة منزلها المطل على حديقة صغيرة. 

كانت تتكئ بظهرها على الكرسي الخشبي، وطفلتها الصغيرة "ليان" تعبث بضحكة بريئة في العشب الأخضر أمامها. 

بقلب هادئ ونظرات ممتنة، تابعت علياء ابنتها، بينما بجوارها جلس زوجها، يقرأ كتابًا بصمت مريح. 

لم تنسَ علياء الماضي، لم تمحُ الذكريات من ذاكرتها، لكنها تجاوزتها. أدركت مع مرور الوقت أن الحب لا يكفي وحده لبناء حياة. أدركت أن الأمان والثقة هما الجناحان الحقيقيان للطيران نحو السعادة. 

أغمضت عينيها قليلًا، وتركت النسيم يداعب وجهها. ابتسمت بطمأنينة، وهمست كأنها تودع آخر أشباح ماضيها: 

ــ لما الثقة بتنهار... حتى الحب العظيم بينهار معاها. 

ابتسم زوجها لها، ابتسامة صافية خالية من الشك أو الخوف، وشدت يدها بيده، لتشعر بدفء لم تعرفه من قبل. 

بعيدان كانا... كلٌ في عالمه. 

بدر مع ذكرياته التي قرر أن يحملها في صمت. 

وعلياء مع حب جديد منحه القدر لها، حب بُني على ثقة وأمان. 

وفي مكان ما بين البحر والسماء، كانت أصوات الأمواج تهمس بالحقيقة القديمة: 

الحب بلا ثقة... مثل بيت بلا أساس. مهما بدا جميلًا، فهو مهدد بالانهيار في أي لحظة. 

وهكذا، أغلق كلٌ منهما فصله الأخير، وسار في طريقه... حاملاً ذكرى، أو حاملاً قلبًا جديدًا.


تمت 

تعليقات

close