نوفيلا سر وعلن الفصل الثالث والرابع بقلم زيزى محمد حصريه
نوفيلا سر وعلن الفصل الثالث والرابع بقلم زيزى محمد حصريه
الفصل الثالث ..
راقبته بتوتر وهو يحادث تلك المدعوة ريم بشرفة الشقة، وضع يده فوق رأسه بفعل حرارة الشمس المرتفعة، ضغطت فوق شفتيها من فرط توترها، لاحظت يده التي أشارت لها إشارة بمعنى اصبري سأقتلك ، تُرى من هي؟!، لِمَ توتر بهذا الشكل فور أن علم أنها ريم، آكلها الفضول والغيظ وهي تحاول التركيز معه لالتقاط أي كلمة منه، نهرها عقلها لتصرفاتها الهوجاء، وبدأت ظنونها تتأكد أن ريم تلك تخصه ومن المؤكد أنها زوجته، شعرت بالإحراج إن كانت بالفعل زوجته هي من أوقعته بغبائها وتسرعها في مشكلة يصعب حلها هكذا صور لها عقلها، ستنتظر وفور خروجه ستعتذر...شعرت بالعطش فدخلت للمطبخ تجلب المياه المثلجة عل برودتها تهدأ من توترها وما تشعر به، أما هو فكان في موقف لا يحسد عليه أبدًا وهو يقف مثل الطفل الصغير يبرر لأخته الصغرى من تلك الفتاة...
_ زي ما قولتلك دي زميلتي وكنت سايب الفون على مكتبي وردت عادي يعني !.
_ مش حاسة بردوا ، طيب ليه المكان هادي كده من حواليها!.
فقد أعصابه ليقول بعصبية :
_حد قالك إن أنا بشتغل في سوبر ماركت أنا بشتغل محاسب، وبعدين في إيه أنتي هتحاسبيني!.
_ خلاص، أنا غلطانة إني بطمن عليك، أنا خايفة عليك يا يوسف أنت بقالك كتير متغرب والغربة ممكن تعمل فيها حاجة غلط...
التفت فورًا للخلف ينظر لها، وكأنه يعرف أنها خطأ، وخطأ كبير جِدًا، ولكن تَبًا لأخلاقه وشهامته التي سمحت له بأن يساعدها، أيعقل أن يأخذ من مساعدته لها مبررًا، أيعقل أن قد تكون جذبته منذ النظرة الأولى، لا لن يؤمن بهذه الخرافات، لقد رأي الأجمل منها بمراحل، لن تجذبه هي وتوقعه في غرامها يكفي تصرفاتها وأفعالها الغريبة، يكفي الغموض الذي يرتسم حولها كل هذا يثير الشكوك بداخله! فتاة تعمل ببلد غير بلدها، تُرى ماذا تركت في مصر خلفها حتى تغادر بلدها وتأتي لبلد غريب عنها، شكوكه جعلته نافر منها....انتبه لتحركها نحو المطبخ، فأصر على إغلاق الهاتف مع أخته سريعًا دون أن تشعر بشيء..
_ طيب أياً كان اللي بتقوليه، علشان أنا مش فاضي، طمنيني روحتي لدكتور!.
أجابته بامتنان :
_ شكرًا يا حبيبي الفلوس وصلتني وروحت وهبدأ الجلسات متقلقش ..
ابتسم مطمئنًا :
_أيوة كده اياكي أسمع تاني كلمه مش هروح لدكتور..
هتفت ممتنة :
_ربنا يخليك ليا يا حبيبي ...
_ ويخليكي ليا، مضطر أقفل سلام...
لم يعطيها فرصه للرد، فهو يعرف أخته جيدًا وفضولها حوله، ولكن هنا فضولها محبب له، لأنه يعلم أنه نابع من خوفها عليه رغم أنها أصغر منه، ولكن لم تفشل أبدًا في إغراقه بحنانها وتعويضه عن فقدانهم لوالديهم حتى بعد زواجها وإنجابها لطفلين، شعر بالتيه للحظات مازال قلبه يتألم لها، أخته الوحيدة أصابها مرض لعين، لم يغيب عنه ذهنه قط لحظه إخبار زوجها له بمرضها، يتذكر سخونة تلك الدمعة التي سقطت فوق صفحة وجهه تحرق روحه بدلاً عنها، رفع بصره للسماء يناجي ربه أن يشفي أخته...تنهد بحزن ثم قرر أن يخرج من دوامه حزنه والدخول لتلك البلهاء لتهذيبها على تعديها خصوصياته بهذة الجرأة، وقف على أعتاب المطبخ يراقبها بصمت وهي تعطيه ظهرها تتجرع المياه بهدوء، تساءل بداخله من أين لها ذلك الهدوء، استفزته أكثر وأشعلت فتيل الغضب بداخله فخرج صوته مرتفعاً حَادًا :
_ شوفتي عملتي ايه ياهانم...
لم يكمل حديثه بسبب اندفاع المياه من فمها بقوة، فتساقطت قطرات المياه فوق أساس المطبخ والأدوات، صاح حانقًا :
_ إيه اللي بتهببيه ده!.
جذبت بعض الأقمشة الموضوعة جانبًا، تمسح بها فعلتها معتذرة :
_ آسفة والله ما أقصد أنا اتخضيت...
دفعها بعيدًا بضيق بالغ وهو يجذب منها الأقمشة واضعًا إياها بعيدًا قائلًا :
_ خضيتك في إيه يا مجنونة، كده تتفي المياه من بوقك..
أشار إليها حانقًا من تصرفها، راقبته بإهتمام وهو يمسح أثار فعلتها بالمناديل الورقية، تشنج جسده وتمتم بكلمات غريبة..
مجنون، هكذا نعته بداخلها فقالت متعجبة : هو أنا جرثومه يا حضرت..
التفتت ينظر لها بغضب :
_ حضرت لما يخفيكي من حياتي، بقولك إيه حافظي على نضافة البيت، أقولك ادخلي أوضتك متخرجيش منها إلا علي قد الحمام، وأنا هاعملك الأكل خلصنا...
هتفت بعند :
_ لا مش خلصنا، أنا مباكلش من أيد حد، أنا هادخل في أي مكان براحتي..
اقترب منها في ثوان ينظر لها بعصبية شديدة، وقد تحولت ملامحه كُليًا في هذه اللحظة، روادها شك أنه لدية علاقة بالجان والعفاريت، فتراجعت خطوة للخلف بإرتباك..
_ أنا شخص مريض بالنضافة، فبلاش تتعدى حدودك معايا أحسنلك..
حسنًا هو اسوء من اعتقادها الأول، لطالما سمعت كثيرًا عن ذلك المرض، لما حظها هكذا، لما كل مكان تذهب إليه يوجد به عله مختلفة، ولكن إذا فكرت بعقلانية ستجدها أهونهم، استغلت اندماجه في تعقيم الأدوات وقررت الفرار لغرفتها تحمد ربها بسرها أن فعلتها تلك أنسته مصيبتها الأولى، وقبل أن تدخل غرفتها أوقفها بصوته الذي أوضح لها أنه مازال يقظًا لها ولتصرفاتها.
_ لو عملتي حاجة تاني واتهورتي ومسكتي حاجة تخصني، أنا هعمل...
صاحت نور تقاطعه بغضب :
_بطل تهددني أنا مبقاليش كام ساعة هنا، وكل دقيقة تهددني، أنا كمان ممكن أهددك فاهم ولا لا...
ترك كل شيء واندفع نحوها فدخلت لغرفتها بسرعة تغلقها بأحكام، وقف خلف الباب قائلًا بتهديد جاد :
_بقولك إيه أنا مش هعيد كلامي تاني، عاوزة تقعدي هنا، تقعدي بقواعدي واللي أنا أقوله يتنفذ، أنتي تحمدي ربنا إني رضيت وقعدت بلوه زيك معايا، فـ اتظبطي كده وشيلي فكرة أنك تهدديني علشان ده في خيالاتك بس، فاهمة..
التزم الصمت يستمع لردها، ولكن قابله الصمت أيضًا، فطرق الباب طرقة واحدة قوية قالت هي من خلفه بذعر :
_ فاهمة..
شعر بالنصر لترويضها، انتفخت عضلاته بشيء من السعادة، أكثر نوع يصعب على الرجل ترويضه، الفتاة المتهورة وهو قرأ جنونها منذ اللحظة الأولى، هو ليس بحديث التعامل مع الفتيات، له تجارب عديدة أكسبته خبرة في صنف النساء عمومًا، ذلك النوع لم يتعامل معه مباشرةً، فجذبه، وأوقعه في دائرة فضول حولها لا تنتهي، ابتسم بفخر لنفسه مقررًا تهذبيها وترويضها كما يجب.
أما هي في الداخل فوقفت أمام المرآة تخاطب نفسها بحيرة، لما انصاعت فجأة له ولأوامره، هي رفضت أن تكون من هذا النوع، وسترفض، حدثت نفسها ألا تنصاع خلفه مرة أخرى، وستظهر له القوة، حتى يتراجع عن فكرة السيطرة عليها، لن تقع تحت سيطرة شخص، ستكون تحت حكم نفسها، سيدة قرارها، شجعت نفسها مَلِيًّا بأن تخرج وتتشاجر معه، شعرت بالتخبط في دربها، ولم تعد تعرف ما تريد، كل ما تريده الآن هو الهدوء، للتفكير في كيفية التعامل معه، أين دهاء المرأة، لِمَ اختفى منها، لِمَ تسيطر البلاهة عليها بهذا الشكل، حتمًا هذا نتيجة توترها، ستهدأ نفسها وتجد الحل حتى تستطيع المكوث هنا دون مشاكل!!.
******
بعد مرور أسبوعان قضت نور الوقت جليسة تلك الغرفة لا تفعل شيء سوى الخروج للمرحاض، والجلوس بها أو النوم، لا يوجد شيء آخر تفعله، آكلها الملل وخاصةً مع نفاذ باقتها للإنترنت، المال معها يكفي لإيجار شهرين وشراء بعض الأطعمة، وعلي ذكر الطعام تذكرت بالأمس عندما طرق الباب طرقات خفيفة واضعًا أمام الباب صحن يمتليء بالطعام والفاكهة، أحبت شهامته وامتنت له، بدأ الصراع الذي نشب بداخلها فور مكوثها بالشقة يهدأ قليلًا وبدأت أفكارها تتراجع، راودتها فكرة بأن تطلب انترنت منه حتى تبحث عن عمل لها...نهضت تنهدم ثيابها اقتربت من الغرفة تفتح بالمفتاح وتبعد ذلك الكرسي الضخم التي وضعته عند مقبض الباب، مازال خوفها مسيطرًا بقوة على مشاعرها، ستأخذ جميع احتياطاتها حتى تخرج من تلك الشقة سليمة دون خسائر، خرجت من الغرفة تبحث عنه وجدت الشقة فارغة، طرقت باب غرفته عدة مرات لا يوجد رد، جلست مكانها بملل تحول بصرها في جميع أنحاء الشقة فوقعت عيناها على المرحاض، تذكرت ذلك الموقف الذي جعلها في حاله من التخبط بمشاعرها، بما مرت به من مشاعر مرتبكة....
******
بعد مرور أسبوع على مكوثها في تلك الشقة ...استيقظت من النوم بسبب حاجتها للمرحاض، لم تنظر للساعة، ولم تفكر أساسًا بما ترتديه من ثياب مكونة من بنطال قصير ضيق وستره تصل لمنتصف ذراعيها، شعرها الأشعث حول وجهها أعطاها منظرًا مضحكًا، تشابهت الأيام لديها وطالت دقات الساعة، خطت خطوات غير متزنة أحيانًا بسبب أثار النوم التي مازالت متعلقة بجفنيها، استعادت اتزانها قرب الحمام، وبدون تفكير أنها تشارك رجل غريب سكن فتحت باب المرحاض فاجأه، اتسعت أعين يوسف الذي كان يقف أمام الصنبور يغتسل هاتفًا بصدمة : إيه ده!!.
ردت خلفه هاتفه ببلاهة : إيه ده!!.
انتابه الضحك ليقول بسخرية : إيه ده أنتي، أزاي تدخلي كده على الناس في بيوت الدعارة..
شعرت بالإحراج يتفاقم بداخلها ، احمر وجهها فبدت كحبه الطماطم حين تزدهر، ابتسمت على مزحته هاتفة بحرج : أنا كنت بحسبك رحت شغلك، أسفه..
جذب منشفته وذهب باتجاه الباب وقف بمقابلها وهو يقول بصوت رجولي هادئ : لا حاسبي بعد كده، مينفعش تتصرفي كده وكأن مفيش حد في البيت معاكي وخصوصا لو راجل..
رفعت عيناها ترمقه بخجل وارتباك، فتقابلت أعينهم اشتبكت نظراتهم للحظات، قبضت فوق المقبض من شدة خجلها، ساد الصمت بينهم لدقائق قاطعها هو بقوله الخافت : صح..
ابتلعت ريقها لتهتف خلفه : هو إيه اللي صح؟..
ركز ببصره فوق شامتها هاتفًا بصوت بعثر مشاعرها وخاصةً عند نطقه لاسمها : اللي أنا قولته من شوية يا نور.
هزت رأسها عدة مرات توافقه رأيه دون أن تشعر بحركاتها تلك، فقال هو مازحًا ينهي بها ضجيج مشاعرهم : طب أقفي خلاص، راسك علقت ولا إيه..ادخلي يالا أنا خلصت..
غادر لغرفته، فالتفتت هي تحدق في أثره مغمغمه : فوقي، فوقي يا نور..
دلفت للمرحاض بسرعة وأغلقت الباب خلفها بأحكام ومنه إلى الصنبور تفتح المياه، بللت يدها ووضعت قطرات المياه فوق صفحات وجهها تحاول أن تهدأ من سخونته، بسبب تصرفها الأرعن تعرضت لأكثر موقف محرج قد تمر به، تغاضت عن مشاعرها التي كانت في حالة اهتياج غريب وقررت أن توبخ نفسها على أفعالها المتهورة والغير محسوبة...
عادت من شرودها وعلي وجهها بسمة بلهاء لم تعرف مصدرها، أو هي تعرف مصدرها جيدًا ولكن تتجاهلها خوفًا في الوقوع بعلاقة غير صحيحة بالمرة، شعرت بعجزها أمام اضطراب مشاعرها فقررت أن تنهي تفكيرها بشيء ما تفعله فكرت للحظات وبعدها قررت أن تخرج وتذهب لأقرب سوبر ماركت تتبضع احتياجاتها، جذبت حقيبتها واستقلت المصعد ومنه إلى الطريق تسأل عن أقرب سوبر ماركت، دخلت وكأي فتاة بدأت في الانغماس في العروضات هنا وهناك، وتناست أمر الساعة وتأخرها..
أما هو فعاد من عمله بإرهاق، كل شيء مكانه لا يوجد تغيير، ارتاح قليلاً للإلتزامها بقواعده، ولج غرفته وأبدل ثيابه بتعب، ومنه إلى المطبخ...رفع بصره نحو غرفتها بتفكير، لعن الفضول بداخله الذي ينصب حولها فقط، نهر نفسه على تفكيره بها وقرر أن يركز على الطعام فقط، هي مجرد مستأجرة ليس أكثر من ذلك، وسيعاملها على هذا النحو، انتبه لقرع جرس الباب، ترك ما بيده ثم جذب قطعه قماش يمسح يده بسرعة، فتح الباب وجدها أمامه تقف وتبتسم، ود أن يمد يده ويصفعها بقوة حتى تخفي تلك الابتسامة المستفزة التي تثير مشاعر حانقة بداخله، دخلت وهي تقول : السوبر ماركت بعيد آوي..
هتف باستفهام :
_ هو أنتي كنتي بره..
ضحكت بخفه وهي تهتف بمزاح :
_لا جوه!.
رمقها باشمئزاز قائلًا :
_بلاش استظراف..
وضعت الحقائب البلاستيكية جانبًا واقتربت منه تضيق عينيها تسأله :
_هو أنت بتعامل كل الناس كده، ولا أنا بس علشان أبقى فاهمة...
_ هتفرق الإجابة يعني!.
هزت رأسها بقوة قائلة بوقاحة :
_أكيد، لو أنت بتعامل كل الناس كده، فأكيد أنت مريض، أما لو أنا بس فأهدى على نفسك بقي علشان أعصابك!!.
هربت الكلمات من ذهنه وتبقى فقط الشتائم، نعم هو يريد أن يعبر عما داخله بها، هي أنسب ما لدية حاليًا، تَبًا لفظاظتها ووقاحتها، ألقت بحديثها وانطلقت صوب المطبخ تفرغ أشيائها أما هو فتبقي مصدومًا هكذا يقف مكانه ينظر، راقبها بعينيه وهي تمسك طبق الطعام الذي يقوم بإعداده وعلي وجهها علامات الامتعاض:
_إيه دي مكرونة بالتونة مبحبهاش!.
ألقى قطعه القماش التي كانت بيده بعنف وهو يجذب منها الطبق :
_وأنتي مالك، اعملي أكل لنفسك...
استدارت بجسدها بعدما التفتت نحو البراد تفرغ الأشياء :
_ آه ما أنا هعمل، أكلك مبيعجبنيش، كنت باكلة بالعافية، بس على العموم ميرسي..
التفتت مرة أخرى تكتم ضحكتها بأعجوبة، سعيدة بنفسها بعد كل جملة تلقيها بوجهه تثير غضبه وحنقه منهاط، أما يوسف فامسك الملعقة الكبيرة بسرعة يريد أن يلقيها برأسها ولكن كتم غيظه لآخر لحظه، وضعها بعنف على الطاولة، ففزعت نور واستدارت تقول :
_لا بقولك إيه أنا بتخض، أهدى كده..
_ اهدي أنتي علشان مقتلكيش، يا مستفزة..
همست هي الاخرى بحنق:
_ رخم..
_ قولتي إيه!.
هزت كتفيها وهي تنتقل بإرجاء المطبخ : _مقولتش..
اغلق عينيه محاولة منه أن يستجمع هدوئه بعدما أفقدته إياه، قرر ألا ينشغل بها وسيتجاهلها حتى لا يكسر رأسها اللعين ويتخلص من ابتسامتها التي كلما تقابلت أعينهم ترسلها له...
اندفع صوب أدراج المطبخ يبحث بسرعة على شيء، حتى وجده وهو يصيح موجهًا الحديث لها :
_عارفة اللزقة دي، لو مبطلتيش ابتسامتك المستفزة دي هاجبها والزق بوقك بيها، ماشي.
رفعت الصحن وهي تتقدم نحو غرفتها بخطوات متمهلة :
_والله اللزقة دي، مش أنا بس اللي محتاجها!!.
استطردت حديثها وهي تقف على أعتاب غرفتها :
_أنت كمان علشان تقفل بوقك اللي بينقط سم ده!!.
دخلت بسرعة وأغلقت الباب خلفها، أما هو فألقى اللاصقة بعنف في باب غرفتها، كتمت هي ضحكتها وهي تقفز بسعادة، وضعت الصحن على الطاولة وبدأت تناول وجبتها بهدوء، تذكرت أمر اشتراك الإنترنت، ضربت بكفها جبينها هاتفة بهمس :
_ غبية!!، هاتقدري أزاي تطلبي منه مساعدة ..متخلفة..
تركت الطعام بضيق بالغ مما فعلته، كيف لها أن تنسى شيئًا مهم مثل هذا، حاولت استجماع هدوئها أو لنقل برودها لتخرج تطلب منه مساعدته..لاح بذهنها فكرة أن تعد مشروب بارد وتقدمه كإعتذار عما فعلته، وامتنان له عما يفعله..خرجت من الغرفة وهي تتحاشى النظر الية، لمحت بطرف عيناها جلوسه على طاوله الطعام يتناول طعامه بصمت، تقدمت من المطبخ وهي تنهر نفسها ألا تنظر له، ولكن عينيها تمردت وألقت نظرة خاطفة عليه، مبررة لنفسها استكشاف حالته ومزاجه، فتقابلت عيناها بخاصته، ارتبكت بشدة حتى أنها كادت أن تسقط وتتعسر في الكرسي الموضوع بجانب باب المطبخ، جاءت أن تحركه هاتفته بتوتر وخجل :
_الكرسي مكانه هنا غلط ..
_ سيبيه ومتحركيش حاجة..
التفتت تنظر نحوه بضيق، فأرسل إليها إبتسامة جافة:
_عاجبني مكانه، في حاجة..
حركت رأسها بنفي وهي تنظر لمكانه قائلة : _أبدًا، ده حتى مكانه هنا تحفه، زوقك هايل.
أردف بتغطرس :
_ عارف..
كظمت غيظها وضيقها ودخلت المطبخ تنفذ باقي خطتها، وبعد ذلك ستسمح للسانها السليط ينطلق نحوه بلا لجام، استغرقت عشر دقائق ثم خرجت تنظر بإعجاب للكوب العصير وهي تقول :
_ أنا عملت أحلى كوباية ..أتفضل.
وضع الملعقة أمامه دون النظر لها قائلًا ببرود : _شكرًا، تعبتي نفسك، مبشربش حاجة من أيد حد.
ضغطت بيدها أكثر فوق الكوب حتى ابيضت مفاصلها، جاهدت غضبها وحاولت إخماده، فقالت :
_ أمممم علشان أنت نضيف وبتقرف صح.
أومأ إيماءة بسيطة والتزم الصمت، فقالت هي بنبرة حاولت أن تخرج عادية وتخفي بها سخريتها منه :
_حقيقي يا أستاذ يوسف حضرتك بتبهرني كل شوية، مفيش راجل نضيف ومرتب بالشكل ده، بجد شابوو...
رفع بصره وهو يرمقها ساخرًا :
_ طبل بذمه تصل للقمة، خير في حاجة عوزاها!!.
جذبت الكرسي المجاور وجلست عليه بسرعة تقول بإستيحاء :
_ ممكن بعد إذنك، تديني تليفونك أو توصلني بـ نت، عاوزه أدور على شغل..
_ بجحه!.
تدفقت الدماء لوجهها من شدة الإحراج فنهضت بسرعة، وقبل أن تتحرك هتف هو : اللاب توب بتاعي على الترابيزة هناك افتحيه ودوري..
فركت يدها بتوتر وخجل قائلة :
_ شكرًا، هدور وأكيد هرجعهولك بسرعة.
أخشن صوته وهتف باستنكار :
_ ده على أساس هتلاقي بسرعة، هو أنتي مش واخدة بالك أنتي فين!!.
رفعت يدها تعيد خصلاتها خلف أذنها بتوتر بالغ، أردفت بلهجة مريرة :
_ لا واخده بالي!.
حدق فيها متسائلًا :
_ أنتي عندك كام سنه؟!
أجابته بنبرة خافتة :
_ ٢٢..
تابع أسئلته يحاول البحث عن أجوبة قد راودته أسئلتها خلال اليومين التي مكثت بهم : _وجاية دبي من أمتي!..
اهتزت جملتها وهي تجيبه :
_من شهر ونص!.
_ وسبتي مصر ليه ؟!.
سؤال لن تجيبه عليه، لا يمكن!!، ستحتفظ بإجابته بداخلها، أجابه تمزقها عندما تفكر بها، ولكن يتبقى شيء واحد بداخلها تنهر نفسها عليه يومِيًا ألا وهو تهورها واندفاعها خلف أمنيات من السراب...حاولت منع عينيها من ذرف دموع الندم يكفي دموعها، لقد وعدت نفسها منذ خروجها من منزل صديقتها ألا تبكي وستظهر قوتها حتى تصل إلى ما كانت تتمناه.. طال صمتها الذي يثير الشغف بداخله لمعرفه ما حدث لها، صمتها يخفي حديث يصعب لسانها أن ينطق به، فرأفه بها وبصمتها!!.
تجاهلت سؤاله، جلست فوق الأريكة تجذب الجهاز على ساقيها وبدأت في رحلة البحث، أما هو فأدرك أن هناك سببًا قوي جعلها تترك مصر، حتمًا سيعرفه فيما بعد...
تركها تبحث بحرية ودخل غرفته، يترك لها مساحتها الكاملة، أما هي فانطلقت بين صفحات الإنترنت، هجرها الأمل بعدما كان سيد مشاعرها وتخللها اليأس، أغلقت الجهاز وظهر على وجهها علامات السأم، ليس عليها سوى أن تنتظر الصباح وتبحث بنفسها عبر الكافيهات والمطاعم، نهضت بهدوء وهي تحمل الجهاز تعطيه ليوسف وتشكره بأدب، طرقت باب غرفته، حاولت رسم ملامح الجمود فوق وجهها حتى لا يشمت بها بعد فشلها الذريع، فتح باب غرفته ناظرًا لها باستفهام، فقالت : _ملقتش، شكرًا .
خرج من غرفته وهو يقول بإستهجان :
_طبعًا مش هاتلاقي مستحيل ، الشغل هنا مش كده..
هتفت بسرعة تسأله :
_امال أزاي قولي، أنت باين عليك بقالك كتير هنا، عارف الطريقة!.
أجابها وهو يجلس فوق الأريكة يجذب هاتفه يعبث به :
_حاجة تشبه الوسطة عندنا، أو ما يسمى بالوسيط..
همست بحيرة :
_ وأنا هلاقيه فين!
أشار إليها بالصمت ورفع الهاتف فوق أذنه يقول :
_حبيبي واحشاني!.
صمت يستمع للطرف الآخر، بعدها ابتسم قائلًا :
_ تسلم، أنا كنت عاوز منك طلب وعشمان فيك تساعدني .
صمت لثوان ثم اتسعت ابتسامته ليقول :
_ ده اللي مستنيه، بص في بنت قريبتي جت هنا تشتغل في دبي، هي قرابة من بعيد يعني، كنت محتاج تجيب لها شغل ويكون مناسب ليها..
تأهبت بسعادة وهي تستمع له، وتراقب ملامحه التي تحولت من الابتسام للاقتضاب وهو يقول :
_ أمم...معرفش، عادية يعني..
انقبض قلبها وهي تجهل أساسًا حديث الطرف الآخر، قطبت جبينها باستغراب عندما وجدته يقول معترضًا :
_ لا طبعًا، أقصد، بقولك إيه جيب أنت الشغل وأنا هاجبها تعمل مقابلة..
حسنًا ستقفز بسعادة مثل الأطفال، بدأت أبواب الفرج تنفتح على مصراعيها أمامها أغلق الاتصال ليقول بعده :
_ هبكلمني ويجيبلك شغل مناسب.
صفقت بحرارة وبسعادة هاتفة :
_شكرًا يا يوسف متشكرة آوي، امتى بقى !!.
اكتفى ببسمة صغيرة ليقول : لا امتى دي معرفش، براحته يومين تلاته، اسبوع اسبوعين، الشغل مش في ايده، هو شغال في مجموعه فنادق واكيد لو لقي حاجه مناسبه هيكلمني..
هزت رأسها متفهمه، صمتت للحظات فتذكرت حديثه عادت تهتف بفضول :
_هو إيه اللي عادية ولا مينفعش، في أية هو كان بيقول إيه؟!.
رد بإقتضاب :
_مالكيش دعوة..
وفور أن أنهى حديثه ارتفع قرع جرس الباب، رفع يده ينظر للساعة قاطب الجبين :
_ مين هيجي دلوقتي...
اتجه صوب الباب أما هي فمازالت تجلس مكانها تنغمس في شعور السعادة لحصولها على عمل، صحيح مازال في أمر الغيب، ولكن يكفي أنها ستحصل عليه فيما بعد، انتبهت لصوت رجل يقف على أعتاب باب الشقة ينظر لها بصدمة يهتف بلهجة مصرية ضعيفة :
_إيه ده يا يوسف، مين حضرتها!!، أنت جايب بنات الشقة بتاعتي!..
يوسف!!، يوسف ليس هنا، يوسف قد غرق في صدمة ما بعدها صدمة، مالك البناية يقف أمامه ويسأله عن تلك البلوى، نعم هي بلوى وقعت فوق رأسه!!، أخبر أخته أنها زميلته، ماذا سيجيب هذا، انهارت عليه علامات التعجب والاستفهام!!، أين ذكائه ليخرجه من ذلك المأزق على خير دون أن يفقد تلك الشقة، التي استأجرها لسنين وارتاح نَفسِيًا لها، إذا أخطأ معه سيخرج منها وبفضيحة، يجب عليه الخروج من تلك المصيبة وبذكاء ..
الفصل الرابع...
تزاحمت أفكاره للخروج من ذلك المأزق لدرجة أن كل فكرة والأخرى تتسابق للخروج للعلن، والرجل يصمت وينظر نظرات غامضة وأحيانًا غاضبة، أما هي فأدركت ما يحدث، حاولت إنقاذ ما يحدث بسرعة، اقتربت منهم تبتسم ابتسامتها الملعونة، ولكن حَقًا هو في أمس الحاجة لابتسامتها الآن، حتى تهدأ من حدة الوضع الراهن، مدت يدها تصافح الرجل بترحاب كبير استعجب له يوسف ومالك البناية...
_ يا أهلاً وسهلاً، نورتنا وشرفتنا..
وبطرف عيناها تغمز ليوسف حتى ينقذ الوضع، فخرج صوت يوسف عَادِيًا بقدر الإمكان : ادخل يا شيخنا واقف على الباب ليه؟!.
لم يتزحزح خطوة واحدة وبقي واقفًا هكذا كالصنم يناظرهم نظرة بمعنى ماذا يوجد هنا، داست بقدمها فوق قدمه، فنهرها يوسف بعينيه عن فعلتها تلك، أما الرجل فما زال يجهل ما يفعلونه، حتى تحدث يوسف فجأة وبدون أي مقدمات : أعرفك يا شيخنا دي....
صمت لبرهة ثم مد يده وحاوطها مبتسمًا : نور مراتي!!.
كانت تهز رأسها مع حديثه وابتسامتها ترتسم فوق ثغرها وتتسع ولكن فور أن أنهى حديثه تلاشت ابتسامتها وحل الذعر ملامحها، لسانها أين هو!!، لا تعلم، عقلها توقف عند نقطة واحدة هي زوجته ويده الممدوه بأريحية فوق كتفها، أما الراجل فاحتلت إمارات الدهشة ملامحه ليقول بنفس لكنته الضعيفة : اتجوزت يا راجل..
نظر لها يوسف نظرة سريعة يستشف رد فعلها، فوجدها ترمقه بغضب وابتسامتها اهتزت، لم تعد تعرف تعبس أم تبتسم فبدا وجهها وكأنه أصابه الرعاش....أما هي فحاولت أن تبتعد بهدوء دون أن يلاحظ الرجل، لمسته بعثرت مشاعرها وجعلتها في حالة تجهلها، حالة لم تتعرض لها من قبل ..أصابع يده التي تقبض بقوة فوق لحم كتفيها انصهر داخلها لملامسها الخشن، يجب أن تبتعد وبسرعة، هذا الوضع يحبس أنفاسها، ويجعل مشاعرها في حالة من الفوضى صعب أن تهدأ...ابتعدت قليلاً رغمًا عنه وأشارت للرجل بالجلوس، أما هو فجهل سبب فعلته تلك، لما قبض وبقوة فوق كتفيها، هل ليثبت للرجل أنها زوجته، أم أنه يريد أن يرضى غريزته ويقترب منها ليرى رد فعلها، ورغم تزاحم المشاعر والأفكار إلا أنه قرأ توترها وتلك الرعشة التي هاجمت جسدها فور محاوطته لها، حسنًا الليالي طويلة وستوضح له حقيقتها حتى وإن حاولت أن تخفيها، فمهما كنت بارعًا في إظهار علنك، داخلك يتلوى كالسمكة الصغيرة التي كُتب في مصيرها بأن تقع فريسة لصياد ماهر، سرك سيظهر للعلن حتمًا وسيريح عقل من أنشغل بالتفكير لمعرفة خباياك!، استفاق من شروده على صوت مالك البناية : واتجوزت أمتي يا يوسف..
ضيقت عيناها للحظات ترمق الرجل باستفهام، لما يصر دائمًا على التحدث باللهجة المصرية رغم ضعفه بها، انتبه لها يوسف فهتف وعلي وجهه ابتسامة صغيرة : شيخنا بيحب يتكلم بلغتنا، بيعز مصر أوي يا حبيبتي!!.
رفعت حاجبيها ساخرة من نطقه لحبيبتي، ورغم سخريتها إلا أن ياء الملكية التي كانت في نهاية الكلمة، أدهشتها لدرجة شعرت بأنها أول مرة تستمع إليها، حبيبتي كررتها بداخلها بنفس طريقته ونغمة صوته، نغمة وقعت على مسامعها وكأنها لحن موسيقى عزف ببراعة على أوتار قلبها المسكين الذي كان بمثابة أول مرة يتعرض لهذا النوع من الحديث أو المواقف...انتبهت لحديث يوسف وحكايته التي اختلقها في دقائق، حكاية صدقتها هي شَخصيًا وخاصةً نظراته التي أرسلت القلق في نفسها : نور قريبتي من بعيد ولما نزلت آخر إجازة كتبت كتابي عليها وعلشان ظروف أختي معملناش فرح، وهي جت على هنا...
حمحم الرجل متأسفًا : طب مش كنت تقول يا جدع، وأخبار أختك إيه، تمام إن شاء الله .
هز رأسه بإيماءة بسيطة متمتمًا : الحمد لله...
حول الرجل بصره نحو نور قائلًا ببسمة صغيرة : أسف يا مدام والله أنا أحب يوسف مثل أخويا وأكثر، بس الله يلعنهم الجيران، بلغوني أنه جاب بنت معه، وكده سمعه مو حلوة على سكنى..
خرج صوتها ضعيفًا : مفيش مشكلة.
عاد الرجل وتحدث بلطف أكثر : والله أنا أحب مصر أوي أوي، وأحب آكلها وشعبها، وبحب أتكلم زيكو آوي..
ضحكت بخفه : ما هو واضح ...
التزم يوسف الصمت، مستغرقًا في تفكيره، أما هي كعادتها عندما تعتاد على شخص تنغمس بحرية في الحديث معه، حتى أنها دعته على العشاء، نعم!!، عشاء ماذا!!، استفاق يوسف على حديثها وهي تؤكد على الرجل بحرارة شديدة : أبدًا لازم حضرتك تشرفنا في يوم على العشااا، وهاعملك الأكل اللي بتحبة...
اتسعت عيناه بصدمه، فحاول أن ينهرها بشتى الطرق، ولكن هي لا توجد هنا، هي في عالمها التي استمعت بالحديث مع الرجل على أشهر الأكلات المصرية، آه داخلية كتمها يوسف، تمنى أن يقف ويكسر عظام رأسها اللعين، يكفي مصائب، مصائبها من نوع غريب يجعله كالأبله أمام حلها، بداية من مكوثها معه حتى هذه اللحظة، نهض الرجل على استيحاء هاتفًا : إن شاء الله أحاول أجاي بعد يومين...
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يقول : أكيد هاتنورنا..
غادر الرجل الشقة، وفور خروجه صاحت نور بصوتها المرتفع : أنت تجننت أزاي تقول عليا مراتك، لا وكمان تحط أيدك عليا، أيدك دي هاقطعها ليك لو فكرت تتمادي أكتر..
ستصيبه بالجنون، ستخرجه عن طور تعقله، المعتوهة كانت تقف منذ قليل وتصر على دعوته، والآن تصيح باعتراض على خطته، هل هي برأسين مثلاً تساءل بداخله فقال بنبرة هادئة أو لنقل الهدوء ما يسبق العاصفة : هو أنتي مجنونة، أنتي مش كنتي لسة بتعزمي الراجل على عشا وبحب آوي...
ضحكت بسخرية لتقول : بعزمه علشان اثبت الخطة المهببة عنده، الراجل كان شاكك يا أستاذ.
ردد خلفها الكلمة متعجبًا : خطه مهببه..
هزت رأسها بالموافقة عدة مرات، فالتوى فمه متهكمًا وتغلب على نبرته الغطرسة : أنتي تطولي يابنتي، أن اسمك يرتبط باسمي، احمدي ربنا...
رفعت أحد حاجبيها على غطرسته قائلة : أنا نفسي افهم واخد مقلب في نفسك ليه، براحة شوية...
احتشد الغضب في صوته ليقول : براحة أنتي، ومتعليش صوتك تاني عليا، واللي عملته كان بسببك..
أشارت على نفسها متعجبة : بسببي أنا!!، أنت مش سامع الراجل بنفسك بيقول الجيران هما السبب..
هز رأسه مجيبًا بحدة : ما هو يا هانم افهمي، أنا كنت هـ أاجر من الباطن، وصاحب البيت ميعرفش، وطالب زفت راجل مستأجر علشان لو سأل أقوله ابن خالتي صاحبي أي حاجة قاعد معايا...
قاطعته هي لتقول بتفكير : آه والوضع هايختلف لو معاك بنت...
التوى فمه باستهجان قائلًا : طب ما أنتي بتفهمي أهو، ومينفعش أقول إنك أختي علشان شاف ريم أختي قبل كده معايا في مصر..
صاحت بتسرع وابتسامة بلهاء فوق محياها : هي ريم أختك...
ضيق عيناه وهو يرمقها بمكر : آه في حاجة!!.
هزت كتفيها بلامبالاة وهي تنهض تتجه لغرفتها : هو مش هايجي أصلاً متقلقش، بس أنت متاخدش لعبه الجواز دي حكاية بقي، الراجل جهة وخلصنا فضيناها...
وقفت على أعتاب غرفتها تنهي حديثها، فنهض هو الآخر يقف يحدثها بنبرة حادة خفيفة تحمل التهديد : لا بقولك إيه يا نور، اللعبة دي سر ما بينا، وهاتفضل كده طول ما أحنا بره على السلم أو في الأسانسير، لو حد من الجيران شم خبر هاتلاقيه ناطط هنا تاني، أنا معنديش أي استعداد أخسر الشقة دي علشان خاطر حد، أنا تعبت وانتقلت من سكن لسكن كتير، لغاية ما وصلت لشقة زي دي، وزي ما أنا بساعدك تشوفي شغل، تساعديني محدش يشك في حاجة لغاية ما أطلقك..
_ نعم!!!.
كتم ابتسامته وهو يتجه لغرفته هو الآخر يهتف بعبث : لغاية ما تنقلي سكن تاني يعني، وقدامهم هاقول طلقتك وبالتلاته...
أشار إليها بيده برقم ثلاث وعلى وجهه ابتسامة مشاكسة، فقالت هي بكبرياء : اللي زيك لو اتجوز واحدة زي ميرضاش يطلقني، تمسك فيا بأيدك وسنانك...
رمقها باستهزاء : ليه الكونتيسة نور، اللي زيك ميقعدش على ذمتي يوم، أنتي مش نوعي المفضل..
شعرت بنيران بداخلها لو سمحت لها بالخروج ستلتهمه بشدة، ولكن كظمت غضبها لتقول : نوعك بسمسم صح...
_ مش هرد عليكي، هاسيبك بنارك كده..
دخل غرفته وهو يضحك بصوت مرتفع، أما هي فاحتقن وجهها بغضب منه، البارد مازال يتفوق عليها في ردوده، قصف جبتها وبقوة دخلت غرفتها هي الأخرى وقفت أمام المرآة تنظر لنفسها تهمس لنفسها بتفكير : مالي ياعني، ما أنا قمر أهو هو اللي أكيد نوعه وحش زيه.
زفرت بحنق وهي تنظر لنفسها تقول بتوبيخ : وأنتي مالك به، وبالنوع اللي بيحبه، أنتي جاية هنا لهدف تحققيه أوعي تفكري في أي حاجة تانية تعطل مستقبلك.
تحركت نحو النافذة تنظر للسماء بتفكير، تسمح لنفسها بالانغماس في حربها مع الذات، زاولتها تلك النجمة التي تتوسط السماء الصافية، نورها الساطع يضاهي باقي النجوم، نورها أرسل في نفسها أمل لبداية جديدة، جعلها تتغاضى عن صراعها ذاك وتأجله لحين إشعار أخر..
أما هو فجلس بمنتصف فراشة ينظر لسقف الغرفة ويستعيد بذهنه ما حدث اليوم، لم يترك تفصيله واحدة إلا وتذكرها وخاصةً لمسته لها، حرب اندلعت بداخله ما بين مؤيد لخطته ومعارض لها، ناهيك عن حربه مع ذاته التي بدأت منذ مكوث تلك المجنونة هنا، من سيكتب له النصر والهزيمة، ضجيج عقله يجعله كالتائه في صحراء جدباء، ذلك الصدع الذي كاد أن يشق صدره لنصفين يجعله على حافة السقوط في الهاوية فاحذر أن تنساق خلف قلبك وصوت أفكارك المضطربة ..هكذا حدث نفسه حتى يستطيع الخروج من تلك الحالة التي أوقع نفسه بها...
*********
مرت الأيام رتيبة عليها، تنتظر اتصال صديقه لإخباره بأمر عملها، تحاول الابتعاد عنه بقدر الإمكان حتى لا يظن بها سوءً، أما هو فكان مستمعًا بداخله بمواقفهم القليلة إلا أنه أحب بها روح المشاكسة والمجادلة، حتى تصرفاتها الهوجاء انتقلت له كالعدوى، فمثلاً بعد تحفظه عليها، وخاصةً أمر عملها بالخارج، إلا أنه يتوق لمحادثتهم القليلة رغم أنها أن فترة مكوثها معه في نفس المكان مازالت قليلة، إلا أنها أضفت على حياته شيء جميل، بعدما كانت تمر الأيام عليه مملة، ورغم عدم علمه بطهي الأسماك أصر على شرائها مقنعًا نفسه لما لا يطلب منها مساعدتها، حجه اتخذها حتى يراها بعدما ابتعدت عن مرمى عيناه لمده يومان، وقفا معًا بداخل المطبخ تساعده بصمت وكل منهما انشغل بالتفكير بمشاعره، حمحم عده مرات حتى يجذب انتباها والبلهاء لا تلاحظ، التفتت بجسدها بسرعة وبيدها صحن الصلصلة في نفس وقت التفات يوسف بحثًا عن الملح، اصطدما ببعض فوقع الصحن أرضًا وتناثرت الصلصة حولهم في كل أرجاء المطبخ، انخفضا معًا كل منهما يحاولان إصلاح ما حدث، قالت هي بتوتر : والله ما كنت أقصد.
_ حصل خير.
ماذا!، يوسف يقول ماذا، تعجبت لهذا، توقعت توبيخه لها وإعطائها درس في النظافة، رفعت عيناها تناظره غير مصدقة لما يقول، فتقابلت نظراتهم، صمتت الألسن وتحدثت العيون لتبوح بكل ما تخفيه الصدور وتشابكت في نظرات طويلة لا تفصلهما سوى حديثه وهو ينهض : متتعبيش نفسك أنا هاعمل كل ده، قومي..
تنحنحت حاولت تنظيف حلقها فخرج صوتها مهتز من فرط مشاعرها : لا أنا هاعمل أهو..
وقف يدور حول نفسه بحثًا عن سائل التنظيف، فوقعت عيناه بالصدفة على ظهرها وهي جاثية أرضا تمسح آثار الصلصة هنا وهناك، جذب انتباهه ارتفاع بيجامتها قليلًا فانكشف مساحة صغيرة من ظهرها، اغلق عيناه بقوة وهو يجاهد نفسه ألا ينظر لها، هو في أقوى جهاد النفس، في حرب مع الذات، تمنى أن يخرج منها دون أن يفقد عقله، ستجنه، ستجعله يخرج عن طور تعقله لقد افتتن بجمالها، جمالها الذي مازال يحارب نفسه وعقله الباطن على نسيان ملامحها التي اختطفت أنفاسها منذ اللحظة الأولى، سحرته، وقيدت عقله بأصفاد الغرام القوية، سحرته وهو مازال يحاول فك شفرات سحرها للنجاة من الوقوع بحب غير مكتمل أركانه من وجهه نظره، انتبه لحديثها وهي تشير له : يوسف هات الصابون..
نطقها لاسمه بهذا الشكل جعله متخبط ما بين الخوض في مشاعره أكثر أو نهرها على ملابسها غير اللائقة معه، وقع اختياره على تعنيفها فقال بعصبية استعجبت هي لها : نور قومي أنا هاعمل كل ده..
فتحت فمها تبرر له بضيق : أنا قولتلك أسفه وهاعملها..
وضع المنشفة التي كانت بيده بعنف : نور قومي، ومتلبسيش لبس زي كده في وجودي تاني..
نهضت على الفور تنظر لنفسها بغرابة ماذا بها ثيابها، بنطال من القطن قصير إلى حد ما وستره تصل أكمامها لنصف ذراعيها، رفعت بصرها تطالعه باستفهام، فأجاب هو على الفور بنبرة هادئة : نور، قبل ما تفكري تلبسي أي حاجة، ياريت تفكري أنك قاعدة مع راجل مهما كان، أنا واحد غريب عنك أنا عاوز مصلحتك..
حسنًا لن تجادله هو يحادثها بهدوء وبأسلوب لبق ومنمق احترمته أكثر، وقررت ألا تعارضه، في النهاية هو لا يفكر بها سوء، هي لا تريد أكثر من ذلك، هزت رأسها بالموافقة واتجهت لغرفتها تبدل ثيابها وعقلها ينشغل بالتفكير به، لم يحاوطها أحد بهذا الاهتمام مثله من قبل، لم تشعر بخوف أحد عليها حتى إنها شعرت للحظات كأنها ورقه خريف ضائعة بين عواصف الحياة، لم يحتويها أحد حاولت أخراجه من عقلها، تنهدت بقوة وخاصةً بعد موقفه هذا، لقد أيقظ مشاعر قد أخمدتها من قبل...
********
استيقظت بسعادة ونشاط غير عادي منذ مجيئها دبي، اليوم ستذهب مع يوسف لإجراء مقابلة للعمل بإحدى الفنادق كما أخبرها يوسف بالأمس، أسبوعان وهي تنتظر ذلك العمل بفارغ الصبر، اليوم ستضع قدمها على بداية الطريق وتنطلق نحو أحلامها دون الرجوع إلى ماضي كلما تذكرته مزق قلبها، مبررة لنفسها أن الماضي قد مات وفات...كاذب من قال إن الماضي قد مات، لان الماضي الذي فات ومات سيعيش بداخلنا للأبد، تاركًا اثارة السلبية تلهبنا بنيران لا يمكن إخمادها...لجمت تدفق أفكارها وقررت التركيز أكثر على انتقاء ثيابها، وقفت قليلًا حتى اهتدت أخيرًا لجيب سوداء يصل طولها لركبة وسترة بيضاء، عكصت شعرها القصير للخلف مرة، ولكن تراجعت وقررت تركه بحريته ينسدل خلفها، وضعت أحمر شفاها لونه هادئ من اللون الوردي، نثرت عبقها ثم ألقت قبله لنفسها في المرآه، ارتدت حذاء ذو كعب عالي من نفس لون السترة، استدارت للخلف مرة واعتدلت بوقفتها مرة تنظر لنفسها بالمرآة، فصاح يوسف من الخارج بحنق : يا برنسيسة أخلصي علشان الحق أروح شغلي، أنا واخد ساعتين تأخير بالعافية..
تأففت بضيق : طيب طالعة أهو..
جلس بنفاذ صبر فوق الكرسي يعبث بهاتفه هاتفًا بهمس : يا رب نخلص..
وقع على مسامعه صوت خطواتها المرتفعة، رفع بصره تدريجيًا يطالعها، مقررًا توبيخها على تأخيرها، ولكن لُجِم لسانه، وأيضًا لسان عقله، خطفت أنفاسه الوقحة بِطلتها تلك، تصاعدت نيران بداخله جهل تسمياتها، نيران غيرة عليها، أم حفاظًا على مظهره أمام الجيران، حسنًا لن يختلف كثيرًا حول التسمية، وسينهض موبخًا لها عما ترتديه فقال بلهجة حازمة حادة : ادخلي غيري هدومك بلاش قلة حيا..
تقلصت ملامحها هي الأخرى بحدة لتقول : نعم!!، قلة حيا، أنت بتكلمني أنا كده.
أخشن صوته وهو يجيبها : آه أنتي، إيه اللي لبساه ده.
هبطت ببصرها نحو ثيابها تنظر بتعجب قائلة : ماله لبسي، ما هو كويس...
استطردت حديثها وهي ترفع وجهها تقول بوقاحة : وبعدين أنت مالك أصلاً.
اقترب منها خطوتان فتراجعت هي للخلف كرد فعل طبيعي منها وأردف بنبرة مليئة بِالتحدي والقوة : أوعي تكوني فاكرة أن ممكن اسمحلك تخرجي كده، أياً كان حياتك كانت إيه قبل ما تيجي هنا، أنتي دلوقتي قاعدة في مملكتي وتمشي زي ما أنا عاوز وبراحتي وكلمة زيادة اعتبري الشغل ده لاغي...
أسبلت أهدابها لطريقته معها في الحديث فقالت بشجاعة : أنت بتكلم معايا كده ليه، هو أنت هاتصدق اللعبة اللي قولتها لا يا بابا، أنا محدش يتحكم فيا.
ثارت ثائرته وهو يقول : لا يا نور الزمي حدودك، أنا هاتكلم ونص، بدام رضيتي وقعدتي هنا، أنا قولتلك قبل كده، أنتي قاعدة هنا بقواعدي، وأنا لا يمكن اسمحلك تنزلي كده، وبعدين يا هانم هو أنا بجرك لسمح الله للغلط، بالعكس أنا عاوز مصلحتك، لان باين عليكي هبله ومتهورة، وهتطمعي الناس فيكي أنا لآخر لحظه عاوز أقف جنبك وأنتي بتجادلي في الغلط..
بعد حديثه هذا، ستبتلع أي حديث قد يخرج من فمها، لم يفشل أبدًا في أن يكبر بنظرها، يزيد من احترامها له، شعرت بصغر نفسها أمامه، خجلت من تفكيرها الأرعن وهتفت بتلعثم وخجل : أنا يعني أول مرة أشتغل، ويعني كنت بقول إن اللبس كده كويس.
هز رأسه نافيًا وقد هدأت نبرته ولانت ملامحه : لا مش كويس أبدًا، مش كويس تطلعي بيه بره البيت أصلاً..
رفعت بصرها تقول باستفهام متعجب : هو مخليني وحشه آوي كده.
أغلق عيناه للحظات، المجنونة مازالت تريده أن يفقد عقله ورزانته، يتحدث بشيء والبلهاء تفكر بطريق آخر، فقال بصوت خافت وجذب متعلقاته ينهى ذلك الحديث : لا مخليكي جميلة آوي..
وقبل أن يغادر الشقة وقف يطالعها بنظرات ذات مغزى تمنى أن تتفهمها : بس البنت مينفعش تطلع وتبقى جميلة بالشكل ده لأي حد، لازم تحافظ على نفسها من أي نظرة كده ولا كده، صوابعك مش زي بعضها ياريت تفهمي، هستناكي تحت في العربية بسرعة غيري وانزلي.
غادر الشقة، بعدما لقنها درس جديد استوعبته جيدًا، وستعلن استسلامها له هذه المرة، أبدلت ثيابها ببنطال أسود وسترة وردية واسعة وذو أكمام، أغلقت باب الشقة خلفها وهي تدعو الله أن يوفقها في عملها وحياتها الجديدة، وفور أن هبطت للأسفل ووقعت عيناه عليها وخاصةً ثيابها ابتسم لها بلطف لتفهماها حديثه ، فأرسلت له ابتسامه ممتنة على كل شيء قدمه لها حتى الآن، وصلا للفندق وهبطا معًا متقدمين للداخل، أجري يوسف اتصالاً بصديقة وهي!!، هي ليست هنا، شاهدت تصميم الفندق بإنبهار، انتبهت بعد دقائق لرجل يقف أمامهم يرحب بهم : يوسف حبيب قلبي واحشني..
صافحه يوسف بحرارة قائلًا : حبيبي يا حسام، أخبارك..
_ زي الفل يا معلم..
وقع بصره على تلك الجميلة التي تقف بجانب يوسف تنظر له بإرتباك، فقال بجرأة : هي دي، طب ما جميلة جِدًا أهي، امال بتقولي عادية ليه..
الآن فهمت سر مكالمته، لِمَ شعرت بالضيق والحنق منه، هل لأثر حديثه عليها، لِمَ لا يراها جميلة، بلهاء هو منذ قليل قالها صريحة لها، ولكن ظلت تدور حول نفسها كالبلهاء بسؤالها لِمَ قال عليها ليست جميلة؟!. انتبهت لحديث حسام : تلاقيك خايف عليها علشان كده لما طلبت صورة ليها رفضت..
نعم، طلب صورة لها، وهو رفض!!، ما هذا، لما يتصرف بهذا الشكل، أما هو فكانت نيران الغيرة تتأجج بداخله، مقنعًا نفسه بأنها تحت حمايته ويجب أن يحميها أو يغار عليها لن يختلف مع المسمى الآن...رمقها بنظرة خاطفه : استني ثانية بس..
وبعدها جذب حسام بقوة ليقفا في أحد الجوانب بعيدًا عنها، هاتفًا بحده : أنت ياض مش هاتتلم بكلامك ده، ولا الشغل في الفنادق نسّاك نفسك..
ابتسم الآخر متعجبًا : إيه يا عم براحة، أنا قولت إيه، أنا بثني على جمالها..
امتعض وجه يوسف وهو يهتف باعتراض : بـــ إيه يا أخويا..
_ جمالها...
رد بها حسام بإبتسامة سمجة محولاً بصره نحوها، فضغط يوسف بيده على وجه حسام وأجبره على النظر إلية هاتفًا بتوعد : لو مظبطتش نفسك هاظبطك، نور محدش يقربلها هي جايه تشتغل وبس، متخلنيش أندم إني طلبت منك مساعدة.
رفع حسام يده باستسلام : خلاص اهداا بس هي أصلاً لازم تتدرب على الأقل أسبوعين تلاته، لغاية ما تقدر تقف في الاستقبال..
هز رأسه موافقًا وهو يتقدم نحو نور فقال يوسف : هاتي أوراقك أديها لحسام...
أخرجت أوراقها بتوتر من حقيبتها ومدتهم نحو حسام، ألقى حسام بهم نظرة سريعة ليقول : إيه ده أنتي جاية بفيزا سياحة.
هزت رأسها بالموافقة لتقول بإرتباك : آه فيها حاجة.
_ لا مفيش عادي، مشكلة بسيطة وبتتحل..يالا أنت يا باشا روح شغلك، وسيبها هنا علشان تبدأ.
أومأ إيماءة بسيطة ولم يبعد بصره عنها، لم ترتبك قط من أسئلة حسام، بل من نظراته التي شعرت أنها تخترقها وتسبر أغوارها، نظراته تريد معرفة خباياهااا..وهي لم يعد لديها الاستطاعة لتخفي سر ماضيها، لم يعد لديها القدرة على خوض تلك اللعبة، لعبة سر وعلن.
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كاملةمن هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا


تعليقات
إرسال تعليق