رواية مذكرات عاشق الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم صفاء حسنى
رواية مذكرات عاشق الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم صفاء حسنى
الحلقه الاولى
تظهر فتاة شابة في بلكونة شقتها، ماسكة إبريق فخار وبتسقي الزرع. دي حنين محمد الدسوقي، محامية عندها 28 سنة. طولها متوسط، بشرتها بيضا وناعمة، عيونها عسليّة باين عليها التعب والحزن، وشعرها بني طويل نازل على كتفها بشكل عفوي. بتسقي الورد بهدوء، وعينيها تايهة في السما، كأنها بتدور على حاجة ضايعة جواها.
في المبنى اللي قصادها، واقف شاب بيراقبها من بعيد. ده حازم علي السيد، عنده 30 سنة، كان نجم كورة قدم واعتزل بعد بطولات كتير. شاب وسيم، بشرته قمحيّة بتزيده جاذبية، وعيونه العسليّة اللامعة مش بتفارق حنين. واقف في بلكونته وبيسمع أغنية "لو عارف" لهاني شاكر بصوت عالي، نفس الأغنية اللي بتوصل ودن حنين وتخلي دموعها تنزل على خدها، كأنها بترجعها لزمن تاني.
حنين فاقت من شرودها على صوت جرس الباب. مسحت دموعها بسرعة وراحت تفتح، لقت راجل في الخمسينات ماسك شنطة بريد جلد، وشه أسمر من الشمس وعيونه صغيرة بس هادية. ده ساعي البريد.
الساعي بابتسامة بسيطة: "في طرد باسم مدام حنين محمد الدسوقي… موجودة حضرتك؟"
حنين بصوت واطي وباين عليها الجدية: "أيوة أنا."
الساعي وهو بيقدم الورق: "الطرد ده ليكي… ممكن تمضي هنا؟"
حنين خدت القلم ومضت بهدوء، وإيديها بتترعش شوية. "حاضر."
قفلت الباب بالراحة بعد ما خدت الطرد، وراحت على أوضتها الصغيرة المليانة كتب وملفات. قعدت على طرف السرير وفتحت الطرد بلهفة، لقت دفتر شكله حلو، متغلف بورق كله ورد، وجنبه ورقة مكتوب عليها: "هل تعرفين أنا العاشق؟" وشريط كاسيت لهاني شاكر.
حطت الشريط في الكاسيت وشغلته، صوت هاني شاكر بدأ يملا الأوضة: "لو عارف إنك حبيبي وبتحبني كنت أديك عمري…"
حنين قعدت مكانها وصوت الأغنية بيعصف بقلبها. فتحت الدفتر وبدأت تقلب في الصفحات بسرعة، وذكرياتها بتسبق صوابعها.
رجعت بذاكرتها ليوم ما سابت حتة السيدة زينب الشعبية، الحتة المليانة روحانية رغم بساطة أهلها. افتكرت ريحة المسك والبخور اللي طالعة من الشوارع، أصوات البياعين، وصوت الأطفال العالي في الحواري الضيقة، وصوت النجارين والحدادين، وصوت الجامع الكبير بتاع السيدة.
الصورة اتنقلت في دماغها لأوضة مكركبة، كانت بترتب حاجتها ولبسها في شنطة كبيرة. صوت أمها وفاء علي، ست عندها خمسين سنة، بشرتها بيضا وشعرها بني فاتح، ووشها باين عليه الحنية والصبر:
وفاء: "أوعي تنسي حاجة، ماشي يا حنين؟"
حنين بابتسامة: "متخافيش يا ست الكل… أنا خدت كل اللي محتاجاه." قربت من أمها وقالت بخجل: "ماما، ممكن طلب؟"
وفاء رفعت حواجبها بابتسامة دافية: "خير يا حنين؟"
حنين بوشها الصغير الجميل: "ممكن أروح أسلم على هالة وأديها العنوان الجديد؟"
وفاء هزت راسها: "مفيش مشكلة، بس متتأخريش عشان ورانا حاجات كتير."
حنين جريت على السلم بسرعة، وصلت لصاحبة طفولتها، هالة ممدوح، بنت في نفس سنها، وشها مدور، بشرتها قمحية، وعيونها بني واسعة بتلمع بالدموع.
هالة وهي بتعيط وبتحضنها: "خلاص ماشية وهتنسيني صح؟ وهتصاحبي ناس غيري."
حنين ردت الحضن وعيونها بتدمع: "انتي أختي وصاحبتي… أنا مقدرش أنساكي، وانتي عارفة كده كويس، صح؟"
هالة ابتسمت بالعافية: "صح… اديني العنوان عشان أبقى أجيلك."
حنين وهي بتديها الورقة: "خدي… وأنا سمعت بابا بيتفق مع عمو عباس إنك هتيجي تزوريني وتنامي عندي في الإجازة زي ما اتعودنا، تمام؟"
هالة: "ماشي يا حبيبتي، إن شاء الله."
حنين خرجت وقابلت والدة هالة، أمل، ست أربعينية ملامحها طيبة، قالتلها بابتسامة: "سلمي لي على ماما يا حنين."
حنين ردت بأدب: "حاضر يا عمتو."
وأخو هالة الصغير، هاني (13 سنة)، بشرته سمرا خفيفة وشعره أسود كثيف، بيبصلها بحب طفولي: "هتبقي تزورينا يا أبلة حنين؟"
حنين مسحت على شعره: "أكيد يا حبيبي."
عباس، والد هالة، راجل في الخمسينات وشه رجولي وبشرته سمرا، نادى عليها وهو بيحط إيده على كتف ابنه: "مع السلامة يا بنتي."
حنين ردت: "الله يسلمك يا عمو."
عباس وهو بيبص لمراته: "أنا نازل معاكي عشان أسلم على بابا وأساعد جارنا يا أمل."
أمل ردت بفخر: "صح كده، هي دي الأصول."
هاني بحماس: "وأنا كمان ممكن يا بابا أساعدكم في نقل الشنط؟"
عباس ضحك: "أكيد، تعالى معايا."
حنين سابتهم ورجعت البيت، الشنط والحاجات كلها بدأت تنزل مع الأسرة، وأهل الحتة بيودعوهم بحرارة. إيد بإيد، كل حاجة اتنقلت لعربية النقل الكبيرة. حنين بصت من بعيد بتودع الحتة وأهلها كأنها بتحلم، عمرها ما خطر في بالها إن هييجي يوم وتسيب المكان. بس ربنا كان ليه حكمة تانية. أبوها اترقى وبقى مدير ونقلوا لحي راقي في 6 أكتوبر.
بعد ساعات من السفر، العربية وصلت المدينة الجديدة. حنين نزلت وهي مبسوطة رغم الحنين، المكان واسع، العمارات ضخمة، الجناين كبيرة، والفيلات بتلمع تحت الشمس. العمارة اللي نقلوا ليها كانت أربع أدوار وحواليها جنينة حلوة.
حنين بفضول: "إحنا في الدور الكام يا بابا؟"
أبوها، راجل هادي، رد بابتسامة: "في الدور التالت يا حنين."
حنين خطفت المفاتيح من إيده وجريت على الشقة، فتحت الباب واتفاجئت بالمساحة والغرف الكتير الواسعة.
سألت بحماس: "ماما، ممكن أختار أوضتي قبل ما عمو ييجي ويختار؟"
وفاء اعترضت: "أكيد لأ… لازم عمك هو اللي يختار عشان يكون مرتاح."
الأب هداها: "سيبيها براحتها يا وفاء… الأوض كتير، وهو حسام هيقعد قد إيه يعني."
حنين بفرحة: "شكرا يا أحلى أب في الدنيا." باست أبوها في خده وجريت تشوف الأوض. لفت نظرها أوضة مش كبيرة زي الباقيين، بس فيها بلكونة حلوة مليانة ورد. وقفت تتأملها، راحت ملت المساقي وبدأت تسقي الزرع وهي مبسوطة. من بعيد، كان فيه حد بيراقبها، بيراقب كل حركة ليها، وكان مبسوط إنها اختارت الأوضة دي.
حنين رجعت لحاضرها، قلبت أوراق الدفتر في إيديها، وقرأت في الصفحة الأولى: "أنتِ متعرفينيش، بس أنا أعرفك… أعرف بتحبي إيه وبتكرهي إيه… وعارف كمان إن الدفتر ده كنتي بتتمني تشتريه… عجبك شكله، بس ساعتها جالك تليفون وخرجتي من غير ما تشتريه."
ابتسمت بمرارة، افتكرت إزاي الدفتر عجبها في يوم من الأيام ومكانش معاها فلوس كفاية، فاتحججت بمكالمة تليفون عشان محدش ياخد باله.
خرجت للبلكونة، حطت الدفتر على ترابيزة صغيرة بعد ما الأغنية خلصت، وراحت تجيب فنجان قهوة والكاسيت جنبها عشان تكمل قراية الدفتر. قعدت في نفس مكانها اللي بتحبه قدام الورد، وبصت للسما وراجعت القضايا اللي في دماغها.
فتحت الدفتر تاني بعد ما خدت رشفة من القهوة، وحاولت تركز في الرسالة اللي كتبها "العاشق" المجهول ده. كان عارف هي كانت عايشة فين، وعارف كانت عايزة تشتري إيه.
قرأت بتركيز أكبر: "معرفش أنا مجهول بالنسبة لكِ ولا لأ، بس المهم إنك دلوقتي فاكرة الدفتر ده، وقاعدة في المكان اللي اتختار لكِ من أول يوم لكِ في المدينة…"
حنين شربت القهوة ببطء، وصوت المزيكا مالى المكان، والرسالة جت في وقت هي محتاجة فيه للمشاعر دي. "صدقيني أنا بحسد القهوة والفنجان دول عشان هما أقرب لكِ مني. كل ملف وكل قضية كنتي بتترافعي فيها، كنت موجود، بسمع مرافعتك. أيوه، أنا بتابعك في كل لحظة وكل دقيقة بتمر في حياتك."
"اشتريته عشان إيدك لمسته، وكنت محتفظ بيه في حضني. كنت عايز أكتب يومياتي، ولما بدأت الكتابة لقيت نفسي بكتب عنكِ ولكِ كل اللي حصل معايا من البداية. اكتشفت إن كل يوم عشته قبلك مكنش ليه أي قيمة، وبعد ما ظهرتي في حياتي كل حاجة بقت ليها معنى عشان أنتِ معايا وقدامي."
"من يوم ما دخلتِ المدينة والحي ده، وأنتِ بقيتي جزء من حياتي. أول مرة شفتك فيها كنتِ في الفيلا اللي قصاد العمارة اللي نقلتِ ليها."
حنين قفلت الدفتر لحظة وحطت إيديها على قلبها، كل كلمة بتنبض جواها، وكأنها شايفة العاشق المجهول ده قدامها.
كنت قاعد على اللاب توب، بتابع آراء النقاد والجمهور في آخر ماتش لعبته. الجو كان هادي، بس فجأة سمعت صوت عربيات كتير برّه الفيلا، وصوتهم عالي كأن حد بينقل عفش. قفلت اللاب، وقمت بسرعة، خرجت من أوضتي، ومن الفيلا، ووقفت في الجنينة.
السواق جري ناحيتي، باين عليه متوتر شوية:
السواق: آسف يا كابتن حازم، النهارده مدير الشركة بتاعة عمّك نقل هنا في العمارة اللي قدامنا. وعمّك بيقولك ما تقلقش، دول ناس راقيين ومش هيزعجوك.
ابتسمت بخفة، وأنا بحاول أبان عادي:
حازم: يا رب فعلاً، أهم حاجة ما يكونوش دوشة.
السواق: لأ خالص، دي أسرة صغيرة كده.. الأب وأخوه، والست مراته، وبنتهم اللي في ثانوي، والست دي مدرسة، والراجل موظف كبير في الشركة في الحسابات.
كنت لسه بتكلم مع السواق لما سمعت صوت خفيف جدًا، صوت أنوثة ناعم كده، خلاني ألفّ من غير ما أحس. وهنا كانت الصدمة…
طلعت من العربية بنت كأنها نازلة من لوحة مرسومة. كنتِ أنتِ يا حنين أو يا أستاذة حنين — ووقتها أنا ماكنتش أعرف اسمك لسه — لكن كل حاجة فيكِ كانت بتتكلم عن الطيبة والرقة. بشرتك البيضا زي اللؤلؤ، عيونك العسلية فيها حزن خفي كأنها شايلة جواها وجع محدش يعرفه، شعرك بني طويل نازل على كتفك وبيلمع مع ضوء الشمس، وكنتِ لابسة فستان أبيض مليان ورود ورديّة صغيرة.
كانت واقفة وسط الناس، بتضحك ببراءة كأنها أول مرة تشوف الدنيا، مبهورة بالمكان، فرحانة بكل تفصيلة حواليها. وأنا كنت واقف أراقبها، مش مصدّق إن في مخلوق بالجمال ده ممكن يكون حقيقي.
أنا "حازم علي السيد"، عندي 30 سنة، كنت أشهر لاعب كورة في النادي، واخدت بطولات كتير، اتعودت الناس تبصلي بإعجاب، بس أول مرة أبص لحد وأحس إن قلبي هو اللي اتشلّ، مش جسمي.
في اللحظة دي، كل حاجة حواليّ اختفت. صوت العربيات، صوت السواق، الدنيا كلها بقت صامتة، ومافيش غير صوتها وضحكتها الصغيرة اللي بتخبط جوا وداني.
وقتها كنت بشوف الفيلا والمكان ده عادي جدًا، لكن بالنسبالها باين إنه كان جنة. كانت بتبص على كل حاجة بدهشة طفلة، كأنها بتشوف الدنيا للمرة الأولى. خدت المفاتيح من الراجل اللي معاهم، وطلعت الشقة بخطوات خفيفة وسعيدة.
أنا سبت السواق ومشيت، حسّيت إني مراهق تاني، طلعت أوضتي اللي في الدور المقابل علشان أرقبها. كل حركة منها كانت بتسحرني، مش عارف إيه اللي بيحصل لي. أنا اللي البنات من الطبقات الراقية كانوا بيتمنّوا نظرة مني، لقيت نفسي متلخبط، تايه، مش فاهم ليه.
كان فيها حاجة مختلفة… مش جمال وبس، فيها روح هادية، بريئة، كأنها سلام بيطفي النار اللي جوايا.
ولما عرفت إنها اختارت الأوضة اللي بلكونتها جنب أوضتي، ضحكت لوحدي، كنت حاسس إن القدر بيقربها مني غصب عن الكل.
وهو ده أول سطر في “مذكرات عاشق”.
"أرجوكي، ما تتلفتيش… كمّلي قراية."
حنين رفعت راسها من الورق، وعينيها فيها استغراب. قلبها بدأ يدق بسرعة، يعني العاشق ده من الجيران؟ قامت بسرعة، سابت البلكونة ودخلت أوضتها وهي متوترة ومش عارفة تعمل إيه. دخلت المطبخ تمسك أي حاجة بس تشغل نفسها، بس عقلها شغال، مين ده؟ بيعرف عني كل حاجة ازاي؟ وازاي كتب الكلام ده وأنا معرفهوش؟
مشيت على أطراف صوابعها ناحية أوضة الأطفال، فتحت الباب بهدوء، ولمست هدوم ابنها الصغير اللي عمره ٤ سنين، اللي غاب عنها، وساب جواها وجع مالوش آخر. اتسندت على السرير، ودموعها نزلت من غير صوت.
وفي الناحية التانية، كان حازم واقف في بلكونته المقابلة، بيبص عليها من بعيد. وشه فيه حزن، وعينيه العسلية اللي كانت دايمًا واثقة مليانة وجع حقيقي. تمتم بكلمات كأنها طالعة من قلبه:
"ما تبكيش يا حبيبتي… آه، حبيبتي سواء انتي عايزة تسمعيها ولا لأ. مهما هربتي، فضولك هيرجعك ليّ، وهتعرفي مين أنا، وليه كتبتلك الكلام ده. دي مش مجرد رسالة… دي مذكّرات عاشق… عاشقك المجهول."
الكاتبة صفاء حسني
ممكن يكون الزمان مش قادر يقرب بيني وبينك، بس قلبي بقى متعلّق بيك، وبقيت أحب كل حاجة بتحبها. بقيت أعشق هاني شاكر، فاكر يوم كنت واقفة مع صحبتك وسمعتي أغنية "لو عارف" لهاني شاكر؟
وقتها وشّك ابتسم… ولما صحبتك هالة استغربت وسألتك:
مذاكرت عاشق الفصل الثانى
– إنتِ بتضحكي ليه؟
ابتسمتِ يا حنين وقلتي:
– أنا بحب هاني شاكر قوي، ولما بسمعه بابتسم. كل أغنية ليه جميلة وبتعيشي معاها قصة حب. صوته رقيق وتحسي إنه حبيبك وبيهمس في ودنك.
هالة ضحكت وقالتلك:
– إيه يا بنتي! حيلك حيلك، أنا حاسة إنك بتتكلمي عن حبيب بجد!
ضحكت حنين بخجل، وبصّت في الأرض وهي بتقلب شعرها بإيديها وقالت بهدوء:
– يمكن أصلًا أنا فعلاً بحب... الحب نفسه، بحب الإحساس اللي في الأغاني دي، بحسها صادقة أوي.
هالة بصتلها بنظرة فيها شقاوة وقالت:
– لأ يا حبيبتي، الكلام ده مش كلام واحدة بتحب الحب… ده كلام واحدة بتحب حد!
رفعت حنين عينيها بسرعة، قلبها دق، بس حاولت تدارى وقالت وهي تضحك:
– لأ يا هالة انتي بتخرفي، مفيش الكلام ده خالص.
بس ضحكتها كانت باهتة شوية، وجواها كانت موجوعة…
كأن الأغنية فعلاً لمست حتة في قلبها،
اللي كل ما تسمع فيها صوت هاني شاكر، بتحس كأن شخص بيكلمها،
قفلت حنين الصفحة بهدوء، وسكتت شوية وهي بتبلع غصّة وجواها وجع مالوش صوت…
قامت من على الكرسي بخطوات تقيلة، ودخلت أوضتها،
نظرت على السرير للصورة اللي دايمًا بتنام في حضنها، صورة ابنها اللي هو كل حياتها،
خدته في حضنها كأنها بتحضنه بجد،
وغرق وشها في دموعها لحد ما النوم غلبها وهي لسه ماسكة الصورة.
مع أول صوت للأذان، فتحت حنين عينيها،
دموعها لسه مرسومة على خدودها،
مسحتها بسرعة، ودخلت الحمام خدت شاور دافي كأنه بيغسل وجعها،
لبست إسدالها وصَلَّت الفجر بخشوع،
وبين كل سجدة والتانية كانت بتدعي:
– يا رب ريّح قلبي… ريّحني من الذكريات.
خلصت صلاتها ودخلت المطبخ، عملت كباية كابتشينو،
الريحة غطت المكان ودفّت قلبها شوية،
رجعت أوضتها تجهّز لبس الشغل…
بصّت على الساعة، كانت ستة الصبح.
لبست تيشيرت أحمر في بيچ على جيبة جينز،
وحجاب بيچ ناعم، والبلطو على دراعها.
وهي بتجهّز شنطتها، لقت الدفتر اللي بيطاردها دايمًا،
كان مرمي على السرير كأنه بيناديها.
قعدت على الكرسي اللي عند الشباك في البلكونة الصغيرة بتاعة الريسبشن،
فتحت الدفتر بإيد مرتعشة،
بدأت تقرأ بصوت واطي، كأنها بتسمعه هو مش بتقرأ كلام:
"الوسيم حازم كتب:
أهلاً بيكي تاني في الغرفة دي،
استنيتك كتير بعد ما مشيتي،
بس لما رجعتي، قررت إن المرة دي مش هتروحي لوحدك…
هتكوني معايا يا أجمل زهرة في البستان،
يا نسمة هوا صافية، يا أحن قلب يا شوقي وحنيني،
زي ما كنتِ عارفة، كنت متأكد إنك هترجعي تفتحي الدفتر،
وبرضه عارف إن عيونك بتدور عليا…
بس لسه مش وقت اللقاء."
رفعت حنين عينيها بسرعة،
بصّت ناحية البيت اللي قصادها،
حسّت قلبها بيخبط جامد…
عينها بتلف تدور كأنها فعلاً حاسة إن في حد بيراقبها.
فضلت ساكتة، وبعدين سرحت بعينيها في الفراغ،
رجعت تفكّر في أول مرة دخلت فيها أوضتها الصغيرة دي…
اللي كانت زمان بتاعتها،
ودلوقتي بقت أوضة ابنها،
بس كل مرة بتيجي فيها… بتحس كأن الماضي بيرجع يفتح بابه ليها من تاني.
كانت قاعدة على الكنبة في البلكونة، وإيديها ماسكة الدفتر اللي بقى سرها الأكبر.
كل صفحة منه كانت كأنها بتفتح باب من ذكرياتها،
باب كانت قافلاه جواها من سنين.
قلبت الصفحة وبدأت تقرأ:
"كنت أتمنى تختاري أوضة أقدر أشوفك منها كل يوم،
ولو حتى لحظات.
متسألينيش ليه، وقتها مكنتش عارف السبب،
بس كل همي إنك تكوني قريبة…
في الغرفة اللي قدامي، عشان أحس إنك معايا حتى لو من بعيد."
ابتسمت حنين بخفة وهي بتقرا السطور،
صوت ضحكها الخافت اتكتم بين دمعة ونَفَس عالق.
عنيها العسلية كانت بتهرب من الكلام كل شوية،
كأنها خايفة المواجهة،
بس كل جملة كانت بترجعها للّيوم اللي نقلوا فيه البيت الجديد.
حنين كانت وقتها لابسة بلوزة وردي وبنطلون جينز، شعرها البُني الطويل مربوط على خُصلتين نازلين على وشها،
ووشها الأبيض منوّر بابتسامة بسيطة،
بس في نفس الوقت باين عليه ملامح الوحدة بعد ما فقدت ابنها.
في نفس اللحظة، حازم — الشاب الوسيم اللي بشرته القمحية بتلمع مع ضوء الشمس —
كان واقف من بعيد بيراقبها من شباك غرفته.
عيونه العسلية فيها شغف، فيها لهفة طفل شاف لعبته المفضلة للمرة الأولى.
ابتسم وهو بيكتب في الدفتر:
"كنت منتظر ملهوف كإني بتابع ماتش كورة، مستني الهدف.
ولما شوفتك داخلة الأوضة اللي قدامي،
انتبهت لقصرية الزرع،
وشكرت اللي حطها هناك،
عشان بشوفك وإنتي بتسقي الورد اللي ذبل…
زي قلبي بالظبط قبل ما أشوفك."
"ربنا بعتكلي في أصعب وقت في حياتي،
كنت بخسر كل حاجة حلوة…
وأنتي جيتي كإنك رسالة طوق نجاة من السما."
رجعت حنين بذاكرتها للوراء...
صوتها وهي بتقول لوالدتها وقتها:
– ماما، أنا اخترت خلاص الأوضة دي.
ضحكت الأم وفاء، الست الجميلة اللي ملامحها هادية وعيونها طيبة، وقالت:
– يعني بعد كل القلق دا يا ست حنين، اخترتي أصغر أوضة في البيت؟
ضحكت حنين وقالت بثقة:
– حسيت فيها بالراحة، وفيها بلكونة شبه اللي كانت في بيتنا القديم، بس دي تبقى خاصة بيا.
العمال وقفوا بيحركوا العفش، والأم واقفة بتضحك:
– أنا عارفة انتي اخترتي دي ليه؟
عشان الأوضة التانية فيها حمام وعاوزة عمك يحس بالخصوصية.
ضحكت حنين بخفة وهي بتقول:
– عارفة يا ماما، بس دي قلبي ارتاح ليها خلاص.
من بعيد، كان حازم سامع كل الكلام ده،
وصوتها وهو بينعكس مع صدى الفيلا دخل قلبه قبل ودنه،
ومن يومها، الاسم “حنين” بقى يرن جواه كأنه أغنية.
رجعت حنين للواقع على صوت المنبّه،
شربت آخر رشفة من الكابتشينو، قامت بسرعة علشان تلحق شغلها.
بس وهي على السلم افتكرت الدفتر!
رجعت تاخده، ووقتها شافت من الشباك حد بيبص من بعيد…
وقف بيراقبها من فوق، بيطمن إنها خرجت فعلاً.
ضحكت بخفة وقالت في سرّها:
– يعني طلع ظني في محله يا مجهول؟
خدت الدفتر، حطّته في شنطتها،
وسابت الباب يقفل بصوت عالي.
حازم كان واقف وقتها،
ضاحك لنفسه وهو بيقول:
– نسيت إن حبيبتي محامية وشاطرة كمان!
كانت ضحكته فيها غرام ولهفة ووجع في نفس الوقت،
كأنه بيتفرج على مشهد بيحب أبطاله وهو مش قادر يدخل الصورة.
حنين نزلت بسرعة،
ركبت التاكسي اللي بيستنّاها كل يوم في نفس المعاد،
وبصّت من الشباك كأنها بتودّع سِرّ بينهما.
الطريق طويل لحد المكتب في التحرير،
بس في عيونها إصرار،
وفي قلبها نار مش مفهومة بين خوف وحنين.
وصلت المكتب،
اللي كانت دايمًا بتحس فيه إنها بتسترد قوتها من جديد.
استقبلتها هناء المشرفة، ست في أواخر التلاتينات، شكلها دايمًا عملي وابتسامتها حنونة.
قالت لها:
– اتأخرتي ليه يا أستاذة حنين؟
بصّت حنين في الساعة:
– دي ١٥ دقيقة بس، خير؟
– أصل في ست كبيرة مستنياكي، جاية من طرف الأستاذ عباس.
– آه، هالة قالتلي عليها امبارح. دخليها، وأنا هدخل عند الأستاذ حسين مختار. قدّمي ليها عصير لو سمحتي.
– أكيد يا أستاذة، هبلّغ عم حامد.
دخلت حنين لمكتب الأستاذ حسين مختار،
الراجل الستيني اللي بيشع هيبة ووقار، بشعره الأبيض ونظراته الطيبة.
قال بابتسامة:
– إزيك يا بنتي؟ عاملة إيه دلوقتي؟ أحسن شوية؟
ابتسمت حنين ابتسامة باهتة:
– الحمد لله على كل حال.
قال بحنية:
– عارف إن نفسيتك تعبانة بعد خسارة قضية الحضانة، بس صدقيني، أنا عملت استئناف. في الآخر، هو مجرد جد، وانتي أمّه.
نزلت عينيها وقالت بهدوء فيه وجع:
– ربنا كبير، بس هو بيضغط عليا عشان أسيب القضية التانية… بس لأ، المرة دي مش هسكت، وهفضحه قريب.
– يا بنتي، انتي كده بتفتحي النار على نفسك.
– هما اللي بدأوا، وهما السبب في اللي حصل لبابا وماما…
سكت الأستاذ حسين لحظة، وقال بخشوع:
– الله يرحمهم يا بنتي، ويغفر لهم.
دمعة نزلت من عين حنين وهي تقول:
– آمين يا رب.
– طيب، سلّمي القضايا اللي معاكي للأستاذ إيهاب، وركزي في القضية دي.
قالت وهي بتشد نفس طويل:
– حاضر، بس القضية دي مش زي أي قضية… دي ممكن تغيّر حاجات كتير.
في جو دافيء من ضوء الشمس اللي بيعدّي من زجاج الشباك، كانت "حنين" قاعدة على مكتبها، هادية بس ملامحها فيها تعب الأيام الطويلة.
حنين بابتسامة خفيفة وهي بتقف:
= شكرًا جدًا يا أستاذ حسين، هستأذن دلوقتي.
رفع حسين راسه من الورق، ابتسم بلُطف وهو بيقول:
= اتفضّلي يا أستاذة حنين، يومك سعيد إن شاء الله.
خرجت حنين بخطوات ثابتة، بس عينيها فيها لمعة شجن خفيف. طلبت فنجان قهوة من عم حامد، بصوت وديّ فيه تعب الأيام اللي فاتت. وبعد لحظات دخلت غرفتها، وهي بتحاول تستجمع هدوءها.
لكن اتفاجئت بظهور سيدة كبيرة في السن، حوالى ستين سنة، شعرها أبيض متغطي بإيشارب بسيط، ووشها مليان تجاعيد الحنية والوجع معًا.
ابتسمت السيدة وهي بتقول بصوت دافيء متأثر:
= إزيك يا حنين؟ بسم الله ما شاء الله، كبرتي يا بنتي.
اتسعت عيون حنين بدهشة، وبعدين وشّها رقّ من الذكريات، قالت وهي بتحاول تفتكر:
= إزيك يا أمي؟ اتفضّلي، أنا تحت أمرك… بس اشربي العصير الأول.
هزّت أم سالم راسها بابتسامة فيها حنين بعيد:
= انتي مش فاكراني يا بنتي؟
حنين ابتسمت بخجل خفيف:
= آسفة يا أمي، انتي عارفة إني نقلت من السيدة زينب من زمان.
ضحكت الست بخفة، ودمعة لمعت في زاوية عينها:
= عارفة يا بنتي، أنا اللي كنت ببيع الخضار والفاكهة في أول الشارع… افتكرتيني؟
ابتسمت حنين والذكريات رجّعت الدفء لقلبها:
= آه افتكرتك يا أمي… خير، اؤمريني.
تنهدت أم سالم تنهيدة وجع، وقالت بصوت حزين:
= الأمر لله وحده يا بنتي… الموضوع إن ابني كان بيشتغل في مصنع الحاج محمد السيد، أبو حماك صالح محمد السيد… بس وقتها كان ابنه علي السيد، الله يرحمه، هو اللي ماسك المصنع، وكان راجل محترم وفتح بيوت كتير.
حنين بهدوء واهتمام، نظرتها فيها حنية وتعاطف:
= الله يرحمه، سمعاكي كمّلي يا أمي.
واصلت أم سالم بصوت بيرتعش، والدموع بدأت تلمع في عينيها:
= ابني كان بيحرُس المصنع، وفي يوم شاف حاجات بتدخل وتخرج من غير ما تكون في سجلات… لما قال لمدير المصنع عملوا جرد وما لقوش حاجة ناقصة. بس ابني ما سكتش، وفضل يدور… لحد ما في يوم أنا تعبت ودخلت المستشفى، فبدّل مع صاحبه في الشغل، علشان يقعد معايا.
صوتها اتكسر وهي بتكمل:
= بس حصلت الكارثة… في اليوم دا، البواب اتقتل… واتهموا ابني إنه القاتل.
عيون حنين اتبلت دموع وهي بتقول بحزم فيه حنان:
= طيب يا أمي، اعملي توكيل وأنا هستلم القضية. إن شاء الله بكرة هطلب زيارة.
قامت أم سالم بسرعة تبوس إيدها، بس حنين مسكتها بحنية ورفعتُها:
= استغفري ربنا يا أمي… أنا بقدّم شغلي، ادعي لي بس ربنا يوفقني.
دمعت أم سالم وهي بتقول من قلبها:
= ربنا يوفقك يا بنتي وينصرك على كل ظالم.
حنين ابتسمت، دموعها على وشها بس فيها طاقة:
= أيوه كده يا أمي… استني دقيقة.
مسكت الموبايل واتصلت:
= هناء؟
نعم يا أستاذة حنين.
= وقّفي تاكسي وحسبيه يوصل أم سالم لحد البيت، أوك؟
أم سالم بتعترض بخجل:
= يا بنتي أنا هاخد الأتوبيس.
حنين بابتسامة دافئة:
= عشان خاطري يا أمي… انتي زمان كنتي بتديني الخضار والفاكهة وتستني لما بابا يقبض.
ضحكت أم سالم وسط دموعها:
= بس عمركم ما اتأخرتوا عليّا، كنتوا أحسن الناس والله… حاضر يا بنتي.
نزلت أم سالم مع هناء، وسابت في قلب حنين دفء مشاعر غريبة.
رجعت حنين على المكتب، سحبت الكرسي، رجّعت راسها للخلف واتنهدت، عينيها راحت للدفتر اللي دايمًا بيغزوها بشوقه.
فتحته، نفس الصفحة القديمة.
الكلمات كانت بتستنّى عينيها كأنها عيون حازم نفسه.
"كنت عارف إنك هترجعي تقري تاني…"
ابتسمت حنين بخفة، ووشها فيه خليط من دهشة وفرح:
= واضح حضرتك واثق في نفسك أوي.
نظرت للكلمات، كانت بتحس صوته في ودنها، وهو بيكمل في سطور ناعمة:
"أكيد ههههه، المهم نرجع لنفس اليوم..."
بدأ المشهد يرجع كأنه شريط فلاش باك بيتفتح قدامها.
صوت حازم بيحكي:
"ساعتها استغربت، قلت يااه… سنّها صغير، بس عندها حب كبير. ومن وقتها خرجتي من الأوضة واختفيتي طول اليوم. أظن كنتي بتساعدي والدتك، لكن آخر النهار شوفتك بتفتحي البلكونة وتسقي الزرع وإنتي بتغني…"
ابتسمت حنين والدموع لمعت في عينيها، كانت بتشوف نفسها في كل كلمة.
"وفتحتِ رواية وبدأتِ تقريها، وإنتي مستمتعة جدًا. كنتي بتسمعي أغنية لأم كلثوم – "إنت عمري". بابا وماما دخلوا البلكونة الكبيرة، فتحوا الكاسيت، وضحكوا لبعض. وانتي قاعده على الكرسي الهزاز، بتشربي كابتشينو وبتسافري بخيالك."
ضحكت حنين بخجل، وهي بتهمس لنفسها:
= ازاي عرف إني كنت بشرب كابتشينو؟
وكأن الورق بيرد عليها:
"ههه، عشان كان عندك شنب منه."
ضحكت وهي تمسح دمعة من عينيها.
الكلمات كملت:
"لما خلصتي القراءة، قمتي توضّيتي وصليتي العشاء، شفايفك كانت بتتحرك بهدوء وإنتي بتقري قرآن. كنتي قافلة البلكونة شوية، لكن أنا كنت شايفك من بعيد… في اللحظة دي حسّيت بالخجل من نفسي، إني نسيت صلاتي. حسّيت إن ربنا بعتك ليا علشان تفوقيني من الضباب اللي كنت فيه…"
السطور اتخنقت بيها مشاعر غريبة — مزيج من حنين، وسعادة، وشوق، ودموع.
"كان يوم خميس، سبت الميكروسكوب واتوضّيت. دورت على النت إزاي أصلي، وصليت. أول مرة أنام مرتاح من غير حفلات ولا ضجيج."
اتنهدت حنين وهي تقلب الصفحة، ولسه صوت حازم جوّاها بيكمل:
"أنا العاشق المجهول اللي حبّك ويتمنى يشوف ابتسامتك تاني.
اسمي حازم علي محمد السيد."
حنين همست وهي بترفع حاجبها بخفة:
= أكيد غنيّ عن المعرفة.
قلّبت الصفحة الثالثة.
"أكيد لا… علشان كده هتعرفي كل حاجة عني وعن جدي، وهبدأ من البداية."
بدأت تقرأ، وصوته في خيالها حكايته عن طفولته، عن الفيلا، عن الجد السيد باشا، وعن حلم الكورة اللي كبر معاه. كانت بتحس كل كلمة، كأنها بتعيشها جوّاه.
وفجأة، صوت رجولي قطع شرودها:
= أستاذة حنين!
انتفضت بخوف بسيط، ضمّت الدفتر بسرعة ودسته في الشنطة الجلدية.
= خير يا أستاذ إيهاب؟
بصّ لها بابتسامة فيها فضول:
= كنتِ سرحانة في إيه؟ حاسس إن في حاجة جديدة في حياتك.
حنين بابتسامة باهتة، فيها قلق خفيف:
= مش فاهمة… تقصد إيه؟
بس جوّاها، كانت بتسأل نفسها نفس السؤال…
هو فعلًا في حاجة جديدة في حياتي؟
ولا هو القدر اللي بدأ يكتب سطوره من جديد؟
الكتابه صفاء حسني
3
في صمت المكتب اللي مكسّره ضوء النهار، كانت حنين لسه عايشة في عالم تاني، سرحانة بين سطور الدفتر، ومش حاسة بالدنيا حواليها.
إيهاب كان واقف عند الباب بقاله أكتر من ربع ساعة، بيبص عليها في دهشة، على أول ابتسامة يشوفها على وشها من أكتر من سنة ونص.
اتكلم بنبرة هادية فيها شجن خفيف:
= انتي مش انتي يا حنين... أنا هنا من ربع ساعة ومحستيش بيا، وأول مرة أشوف الابتسامة دي من سنة ونص.
مذاكرت عاشق الكاتبه صفاء حسني
اتخضت حنين، عيونها اتسعت شوية، وشها اتبدّل من السرحان للجدية فجأة:
= إزاي تدخل عليا من غير إذن يا أستاذ؟
ضحك إيهاب بخفة، ووشه فيه لمحة ذنب:
= مش بقولك؟ أنا خبطت الباب مرتين وقلقت عليكي، فـ فتحت الباب.
حنين وهي بتعدل قعدة الكرسي بنفَس متضايق بس مهذب:
= طيب ما كنتش تستنى لما أخلص؟
ردّ وهو بيقرب خطوة، صوته فيه صدق وقلق حقيقي:
= قلقت عليكي، صدقيني... وأنا آسف مرة تانية.
اتجه ناحية الباب كأنه هيخرج، لكن صوتها ناداه في آخر لحظة:
= استنى يا أستاذ إيهاب... كنت عايز إيه؟
(سكتت لحظة، وبصت له وهي بتحاول تخلي نبرتها عادية)
= لو سمحت، يا أستاذ إيهاب، دقيقة بس.
وقف إيهاب، لفّ ناحيتها، نظرته فيها احترام ممزوج بحب مكبوت:
= نعم يا أستاذة حنين؟
قالت وهي بتقوم من مكانها بهدوء وبتفتح درج المكتب:
= أستاذ حسن طلب أسلّم أوراق القضايا اللي معايا ليك.
ابتسم ابتسامة بسيطة وهو بيقرب منها:
= عارف، وكنت جاي أستلمهم منك.
حنين:
= تمام... في خدمة تانية من حضرتك؟
اتحركت ناحية الرفوف الكبيرة، كانت خطواتها هادية بس وراها تعب وشجن. مدت إيدها وسحبت شوية ملفات، رجعتله بيهم، وشها متماسك، بس ملامحها فيها حذر واضح.
= اتفضل... دي الملفات الخاصة بقضية شركة السكر، ودي اللي خاصة بالمهندس فارس.
إيهاب استلم منهم الورق، عيونه ناعمة وهو بيبصلها:
= تمام، هادرسهم وشوف إيه اللي مستعجل وإيه اللي ممكن يتأجل.
ابتسمت بخفة وقالت:
= تمام... ممكن خدمة تاني؟
بصّ لها إيهاب بنظرة طويلة، فيها حب صامت مش عايز يتقال، وقال بهدوء:
= أكيد يا حنين، أمّري.
مدّت إيدها وطلعت ورقة صغيرة بيضا، كتبت عليها بخط مرتب اسم “سالم محمد محيي”، وناولتُهاله:
= الورقة دي فيها عنوان واحد... وده اسمه. ممكن تعمل تحريات دقيقة، بليز؟
إيهاب بص في الورقة، وبعدين رفع عينه ليها، عيونه بتسألها حاجات كتير مش قادر يقولها:
= من عنيا يا حنين... عاوزاهم امتى؟
حنين بصوت هادي وفيه توتر خفيف:
= بكرة إن شاء الله لو أمكن… معلش، عارفة مش من اختصاصك، بس مش عايزة أروح المكان دا دلوقتي.
ابتسم إيهاب، وقال بهدوء ودفء واضح:
= ولا يهمك… اعتبريه خلص.
في اللحظة دي، حنين بصت له نظرة قصيرة وسكتت، كأنها شكرته بعينيها، وبعدين رجعت تقعد على مكتبها وهي بتحاول تستعيد هدوءها…
بس قلبها كان لسه مش مستوعب إن حد لاحظ ابتسامتها اللي ماتت من سنين.
إيهاب وهو باصص لها من غير ما يفهم:
= حاضر يا حنين، أي خدمة تاني؟
حنين بسرعة وهي بتحاول تبان طبيعيه:
= آه... ولاّ أقولك، مش وقته... شكرًا.
إيهاب باستغراب وهو بيقرب منها خطوة:
= في حاجة يا حنين؟
حنين مرتبكة وبتحاول تهرب بعنيها:
= هااه؟ لا، آه... نادِي هناء.
إيهاب بدأ يلاحظ توترها، نبرته بقت أهدى:
= هي الزيارة بتاعة إياد بكرة؟
حنين بحزن وهي بتتنهد:
= آه... كان نفسي يفضل معايا طول الوقت، مش كل خميس بس.
كان نفسي ينام هنا، نصحى سوا... مش مجرد ساعات الليل، وتاني يوم ياخدوه.
إيهاب بلُطف:
= معلش يا حنين، مين اللي هيروح يجيبه؟
حنين:
= للأسف أنا ممنوعة أروّح أجيبه... لازم حد من طرفي.
وعمّي احتمال يرجع بكرة متأخر، وكمان تعبان.
إيهاب بعرض نية صافية:
= طيب خلاص، أنا أروّح أجيبه.
حنين بسرعة وهي بتخاف يتكرر اللي حصل قبل:
= لا بلاش، كفاية المرة اللي فاتت... استفزّوا عمي وكنت هاتحرَم أشوفه.
هناء وعدتني إنها هتجيبُه.
إيهاب بابتسامة خفيفة:
= أنا بعرف أمسك أعصابي يا حنين، مش هتعصب زي عمك.
بس اللي تشوفيه... سلام، وهبعتهالك هناء تتفقوا مع بعض.
حنين بهدوء وامتنان:
= شكرًا جدًا يا أستاذ إيهاب.
إيهاب:
= العفو يا حنين.
...
صوت الأذان بدأ يعلو في كل مكان، "الله أكبر... الله أكبر..."
حنين قامت بهدوء، دخلت توضّت، وبعدها وقفت تصلي بخشوع.
وفي مكان تاني، في أكتوبر... عند العاشق.
فيلا كبيرة فخمة، حديقتها مليانة خُضرة وورد من كل ناحية.
بوابة حديد ضخمة، ووراها باب خشب متقسم لمربعات زي المثلثات.
من أول ما تدخل، تلاقي الرِسبشن الكبير متزين بأثاث كلاسيكي راقي،
وفي آخره مطبخ على الطراز الأمريكي.
السلم الرخامي يطلّعك للدور العلوي المليان غرف،
لكن نروح لغرفة "العاشق"...
كان لسه مخلص صلاة، يسلم يمين ويسار،
يقوم من على السجادة وهو يسمع رنة تليفونه.
يبُص على صورة "حنين" وهي ضاحكة في حضن "إياد"،
يبصّ لها بابتسامة حزينة:
= إن شاء الله... هترجعي ليّ من تاني.
جلس حازم على الكرسي الجانبي في أوضته، الدقّات الهادية لساعة الحيطة كانت هي الصوت الوحيد اللي بيكسر الصمت.
ضوء النهار كان داخل من الشباك، يمرّ على وشه المرهق اللي باين عليه السهر،
وعينيه فيها خليط من حيرة ووجع قديم.
مدّ إيده ناحية الموبايل اللي بيرن على الطاولة، وبنظرة مترددة ضغط على زرّ الرد.
بصوت مبحوح ومائل للحزن:
حازم:
= ألو؟
من الطرف التاني، جاله صوت حاتم الحماسي، نبرته دايمًا مليانة طاقة، كأن مفيش حاجة في الدنيا توقفه.
حاتم:
= إزيك يا ابني؟ قررت إيه؟
لمعة صغيرة لمعت في عين حازم، بس مش لمعة فرح… كانت لمعة غيظ من نفسه.
نزل بعينه على الصورة اللي قدامه فوق المكتب — صورة "حنين" وهي بتضحك، شايلة إياد —
ضحكتها كانت بتنكّشه في قلبه، بتفكره إنه ضيّع أكتر حاجة كان محتاجها.
قال بهدوء متكلف، يخبي بيه اضطرابه:
حازم:
= لسه بفكر يا كابتن.
حاتم على الناحية التانية، اتنهد وبصوت مليان حماس وضغط:
= يا ابني دي فرصة متتعوضش! تكون مدرب لفريق منتخب عالمي!
حازم حط إيده على خده وسند دماغه،
نظراته راحت بعيد… كأنه شايف وشها في المراية، بتبصله بنظرة عتاب.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفايفه، بس كانت باهتة، فيها كسرة وجع مش فرح.
بصوت خافت، أقرب للهمس:
حازم:
= عارف يا حاتم... بس مستني حاجة.
اديني شهر واحد، شهر بس، وهرد عليك بالموافقة أو الرفض.
حاتم صمت لحظة، وكأنه فهم إن ورا كلامه وجع مش عايز يقوله.
قال بنبرة فيها تسليم:
= ماشي يا ابني... زي ما تحب.
انتهت المكالمة، وفضل حازم ماسك الموبايل،
أنفاسه تقيلة، عينيه معلقة بالصورة اللي قدامه.
مدّ إيده ببطء ولمس طرفها،
ابتسم ابتسامة مكسورة، وقال بصوت مبحوح وهو بيهمس لنفسه:
حازم:
= يا رب... ترجعلي مرة تانية، حتى لو صدفة.
وقف حازم قدام الصورة اللي فيها "حنين"، وشه باين عليه تعب السنين،
نظراته تايهة بين الشوق والندم، وإيده بتترعش وهو بيمسح التراب عن البرواز.
قرب منها خطوة كأنه بيكلمها قدامه فعلاً، وصوته اتكسر وهو بيهمس:
حازم (بوجع واشتياق):
= عايز فرصة أخيرة... يمكن الرسالة دي تخليكي تعترفي، لو فعلاً بتحبيني زي ما أنا بحبك...
ولا أنا كنت عايش وهم؟ ضيعت سنين من عمري في انتظارك على الفاضي؟
نزلت دمعة سريعة على خده، مسحها بسرعة كأنه بيخبي ضعفه،
وبصّ في الصورة تاني وهو بيكتم تنهيدة تقيلة خنقاه من جواه.
..........................................
تتبع .
الكتابه صفاء حسني
الفصل الرابع
مذاكرت عاشق
"حنين" بتفرش السجادة وتصلي بخشوع،
عينيها فيها دموع بس قلبها كان مطمن، أول ما سلّمت من الصلاة
سمعت باب المكتب بيتفتح بخبط خفيف.
هناء (بابتسامة طيبة):
= حرما.
حنين (وهي بترد بابتسامة بسيطة):
= جمعًا إن شاء الله.
قربت "هناء" منها وهي ماسكة ورق صغير فإيدها، وقالت بنبرة فيها حماس:
= أنا عارفة كنتِ عاوزة إيه، واطمني، إن شاء الله الساعة اتنين الظهر هيكون عندك.
حنين (بحماس وامتنان):
= مش عارفة أشكرك إزاي والله يا هناء.
هناء (بحنية):
= انتي اللي تشكريني يا حنين! نسيتي إنك جبتيلي حقي ونصفتيني؟
ابتسمت "حنين" ابتسامة فيها تواضع وقالت بهدوء:
= أنا كنت بعمل واجبي وبس.
هناء (بحب):
= صدقيني عندهم حق لما بيقولوا إنك أعظم محامية.
وإن شاء الله ربنا هينصرك قريب.
استأذن أنا بقى.
حنين (بلطف):
= اتفضلي… وابعتِلي فنجان قهوة لو أمكن.
هناء (بمزاح خفيف):
= لأ، علشان خطري كفاية قهوة… مضرة ليكي،
هجيبلك عصير ليمون فريش ساقع، أوكي؟
حنين (بضحكة خفيفة):
= تمام، زي ما تحبي.
رجعت "حنين" مكانها، بدأت تراجع الأوراق وتكتب ملاحظات سريعة،
وبصت في الساعة قبل الأذان، وبعد صلاة العصر قفلت الملفات وقررت تمشي.
خرجت من المكتب بخطوات هادية، وركبت التاكسي اللي بيستنّاها كل يوم،
كانت الشمس نازلة، والجو هادي،
فتحت شنطتها وسحبت منها الدفتر القديم اللي بقى ملازمها زي ظلّها.
فتحته على أول صفحة،
ابتدت تقرأ بخوف ولهفة في نفس الوقت،
كل كلمة كانت بتسحبها لورا… لذكرياته هو.
............................................
صوت حازم (من بين الذكريات):
= في الوقت دا، الكابتن حاتم كان مصمم إني أكون في فريقه،
حاول مع بابا كتير...
حاتم (بحماس):
= ابنك شاطر وبيلعب حلو، وعنده موهبة حرام تضيع!
أنا هضمه لفريق المحترفين، والولد دا هيبقى ليه مستقبل كبير!
الأب (بعناد هادي):
= هو دلوقتي في إعدادي، إزاي يهتم بالنادي وينسى المذاكرة؟
هو في الآخر لازم يمسك المصانع بعدي.
الجد اللي كان قاعد على الكرسي الهزاز، رفع راسه بصوت واهن لكنه مليان رجاء:
الجد:
= علشان خطري يا ابني، ما تكسرش خاطر الولد.
واعتبرها وصيتي ليك يا علي.
الأب (بقلق وحب):
= بعد الشر عليك يا أبي، ما تقولش كده.
حازم (يروي والدمعة بتلمع في عينه):
= وبعدها بشهرين، جدي توفى...
كنت حاسس إن جزء مني راح معاه.
سكت لحظة كأنه بيسترجع المشهد جوه دماغه،
وبعدين كمل بصوت مبحوح:
= بس بعد وفاته بشهر، بابا أخدني للنادي...
قال إنه مش عايز يخالف وصية جدي، وفي نفس الوقت مش عايز يضيع مستقبلي.
علي (بهدوء):
= ابني يقدر يوفق بين الموهبة والدراسة.
حاتم (بثقة):
= متقلقش، عندنا خطة مخصوصة.
الأولاد دول محترفين من سن 12 لـ17 سنة،
وعندنا دروس تقوية عشان ما يتأثروش،
إحنا عايزين شباب متعلم ينافس العالم كله،
وابنك يا علي، إن شاء الله هيبقى منهم.
حازم (بحنين):
= كانت أول مرة في حياتي أحس إن حلمي ممكن يتحقق…
بس ما كنتش عارف إن كل حاجة حلوة ليها تمن غالي قوي.
كان صوت "حازم" لسه بيرن في ودن "حنين"، وكأنها سامعاه بنفسه مش بتقرأه من دفتر.
كل كلمة منه كانت بتلمس حاجة جواها، حاجة كانت ماتت من زمان.
كلامه كان بيحمل صدق وحنين ووجع عمره ما راح.
صوت حازم:
= وفعلاً يا "حنين" يا جميلتي... يا قلبي،
كنت بخرج من المدرسة على النادي، أحضر فصول التقوية هناك،
وكانوا المدرسين بصراحة غير أي حد...
أكفأ من مدرستي الخاصة اللي كانت بس مهتمة باللغات.
(نبرة صوته فيها فخر ودفء، كأنه بيحكي عن ذكريات بريئة مشبعة بالأمل)
= كنت بتدرب كل يوم، ماعدا الجمعة...
كنت بروح أنا وأبويا الشقة القديمة في نفس الحي،
هو كان بيقعد مع كبار الحي، وأنا كنت بشوفك.
ياااه... كنتِ طفلة صغيرة بتلعبي مع "هالة"،
ماكنتش أتخيل إن اليوم هييجي وتبقي جمبي بالشكل دا.
(صوته يتهدّى شوية، ويطلع منه تنهيدة طويلة كأن الذكرى وجعته)
= كنت بلمّحك زي باقي الأطفال،
بس بعد ما جيتي... بقيتي جزء من حياتي،
حتى وأنا مش واخد بالي.
ابتسمت "حنين" وهي في التاكسي، عنيها بترتعش،
حاسة كأنها بتعيش اللحظة، مش بس بتقراها.
سابت نظرها يهرب برة الشباك، والمدينة كلها بتمشي قدامها ببطء،
كأن الزمن بيرجع لورا معاها.
صوت حازم (مستمر):
= المهم... كان أبويا دايمًا بيحل مشاكل الناس،
يوظف شبابهم، يساعد رجالهم...
لما طور الشغل، بقى عنده بدل المصنع اتنين وتلاتة.
مصنع تغذية، ومصنع ملابس، ومصنع جلد.
وكان بيختار من الحي الشباب المتعلمين،
خريجين هندسة، تجارة، حقوق...
يدِّيهم مناصب كبيرة، وكانوا قدّ المسئولية فعلًا.
(نغمة فخر خفيفة في صوته، لكن مكسورة بحنين)
= أبويا كان بيعاملهم بحب...
بس كمان بحزم وعدل، وكان كريم معاهم في كل حاجة.
ومن كتر حب الناس ليه، طلبوا منه يرشّح نفسه لمجلس الشعب.
هو وافق، ودخل المجلس، واتغيّرت حياتنا من ساعتها.
"حنين" كانت بتقلب الصفحة بعناية،
إيدها بتترعش كأنها خايفة تكمّل،
عنيها فيها بريق إعجاب ممزوج بالحزن.
كانت شايفة قد إيه حازم كان بيحكي بكل صدق،
وقد إيه الحياة فعلاً بتاخد أكتر مما تدي.
صوت حازم:
= بقى معروف، والكل بيحترمه،
وأمي بقت سيدة مجتمع...
وأنا وقتها كان عندي 19 سنة.
كنت بحترف اللعب،
ونادي ورا نادي... لحد ما بقى اسمي معروف في فرق كبيرة.
(يتنهّد)
= بس نسيت حاجات كتير يا حنين...
ومنها الصلاة.
أبويا انشغل في البرلمان، وأنا انشغلت في السفر والمباريات.
ولما كنت برجع على فترات، كنت بروح أشوف "وليد" كل فين وفين...
كل حاجة كانت بتبعد، حتى نفسي.
صوته بدأ يهدي، كأنه بيحكي آخر سطر في ذكرياته:
= بس يا حنين، الحياة كده...
يوم تديك كل حاجة بسخاء،
ويوم تاني تاخد منك كل حاجة بدون ميعاد.
....................................................
قفلت "حنين" الدفتر ببطء،
ونظرتها كانت غرقانة بين دمعة وابتسامة حزينة.
بصت من شباك التاكسي،
السايق وقف قدام بيتها.
حنين (بهمس وهي بتطلّع نفس طويل):
= فعلاً يا حازم... ماينفعش تدي كل حاجة.
مدّت إيدها ودفعت الأجرة،
نزلت من العربية بخطوات هادية،
الهوا لمس وشها، بس قلبها كان تقيل.
رفعت راسها تبص ناحية "الفراندة" اللي كانت دايمًا فيها ذكرياتها مع العاشق المجهول...
بس المرة دي، كانت فاضية.
لا في ضحكة، ولا في ظلّ، ولا حتى ريحته.
(تبتسم بخفة وهي بتهمس)
= يمكن خلاص... انتهى الحلم.
ومشت بخطوات بطيئة لحد باب البيت،
وبين إيدها الدفتر...
كأنها شايلة فيه عمرها كله.
💔💔💔💔💔💔💔💔💔💔
كانت واقفة قدام البيت، بتبص حواليها يمين وشمال، عينيها فيها قلق وفضول، قلبها بيدق بسرعة كأنها حاسة إن في حد بيراقبها. أنفاسها كانت متلاحقة وهي بتحاول تلمح أي حركة غريبة، بس المكان كان هادي...
العاشق المجهول في نفس اللحظة كان ماسك صورتها في إيده، بيتكلم معاها بصوت واطي فيه وجع ولهفة. عنيه سايحة في ملامحها وكأنه بيكلم روحها مش صورتها.
حنين طلعت السلالم ببطء، كل خطوة كأنها تقيلة على قلبها. وصلت الشقة، فتحت الباب ودخلت، رمت شنطتها على الكنبة وهي حاسة بتعب مش جسدي بس، تعب جوه القلب.
دخلت أوضتها وسرحت في السقف، حست بوحدة تقطع القلب. تمتمت بصوت مبحوح:
"يعني هو لازم الحياة تبقى قاسية كده؟ ليه بتجبرنا نمشي في طريق مالناش اختيار فيه؟ ليه تاخد مننا أجمل ما فينا؟"
قامت وهي مهمومة، دخلت الحمام وفتحت الميه السخنة، نزلت في البانيو المليان برغوة الصابون ومية الورد.
الريحة كانت هادية وجميلة بس عقلها مش عارف يهدى. فضلت هناك نص ساعة، تغمض عينيها تارة وتفتحها تارة تانية، كأنها بتحاول تنسى كل حاجة...
خرجت بعدين، لفت شعرها بالفوطة ولبست لبسها الواسع، وقتها كان آذان المغرب بيعلو من بعيد.
قامت توضت، وقفت تصلي بخشوع، الدموع كانت بتلمع في عينيها وهي بتدعي ربنا يريح قلبها ويبعد عنها الهم.
خلصت صلاتها، راحت المطبخ وهي تايهة في أفكارها. كل حاجة بتعملها آليًا من غير تركيز، بتحط الأكل ع النار وتسيبه، ثم تجلس تاكل وهي شاردة، المعلقة تطلع وتنزل وهي مش حاسة بطعم الأكل.
صوتها الداخلي كان بيغلي بأسئلة مش لاقية ليها إجابة:
"هو ليه سكت طول السنين دي؟ وليه دلوقتي؟!
هو ممكن يكون ابن عم جوزي؟!
ولا كل ده صدفة؟!"
وضربت بإيديها على الطرابيزة بخفة وهي تتمتم:
"لا، في حاجة غلط... في سر أنا لسه معرفتوش."
تجري حنين على الباب وهي قلبها بيدق بسرعة، مش عارفة ليه إحساسها بيقولها إن اللحظة دي مش عادية.
تمد إيدها وتفتح الباب بلهفة، تلمح وش صغير منور قدامها، وعينيه فيها فرحة الدنيا كلها.
إياد (بصوت مليان شوق):
= ماما... حبيبتي... وحشتيني أوي!
حنين (بدموع نازلة وهي بتحضنه بقوة):
= إنت قلبي ونور عيني يا إياد... وحشتني أكتر، أكتر من كل حاجة في الدنيا.
تضمه في حضنها بكل قوتها، كأنها بتحاول تعوض كل لحظة غياب، وكل يوم اتحرمت فيه من دفء ابنه.
دقايق قصيرة، بس كانت كفيلة تخطف معاها وجع سنين، دقايق من الحنان اللي من حق كل أم.
إياد (ببراءة):
= إنتي ليه على طول مسافرة يا ماما؟
حنين (تمسح دموعها وتبتسم):
= مين قال كده؟ أنا هنا، موجودة على طول يا حبيبي.
إياد:
= جدو قال إنك سافرتي تتفسحي وسِبتيني هنا.
حنين (تضحك بخفة وهي تحاول تخبي وجعها):
= أنا أقدر أتفسح من غيرك؟! دا عمو حسام هو اللي سافر، مش أنا يا قلبي.
إياد (بتلقائية):
= أنا مش بحبه خالص.
حنين (بهدوء):
= ليه بس كده؟ دا بيحبك أوي يا إياد.
إياد:
= علشان زعق مع جدو، وجدو مش بيحب الظابط... بيقول وحشين.
حنين (تتنهد وهي ترفع عينيها للسقف):
= لا حول ولا قوة إلا بالله...
تلتفت وراها تلاقي هناء واقفة على الباب، وشها متأثر بالموقف.
حنين (بابتسامة خفيفة):
= آسفة يا هناء، كان واحشني أوي، اتفضلي.
هناء (بدموع خفيفة):
= ولا يهمك يا أستاذة، موقف مؤثر بجد.
حنين:
= تعالي يا حبيبتي اتغدي معانا، عاملة صينية مكرونة بشاميل وبوفتيك.
إياد (بحماس):
= الله! الأكل اللي بحبه!
حنين (وهي شايلة إياد على كتفها):
= آه يا روحي، أنا عملته مخصوص علشانك يا قلب ماما.
هناء (بابتسامة):
= أنا هستأذن بقى يا أستاذة.
حنين:
= لسه مصممة تمشي يعني؟ طيب استني دقيقة.
تدخل حنين جوه المطبخ، وترجع بصينية مغلفة، تمدها لهناء بابتسامة دافية.
حنين:
= خدي دي معاك، وسلميلي على ماما وأخواتك، وقولي لماما يا رب أكلة بنتك حنين تعجبك.
تمدلها كمان ظرف صغير.
هناء (بدهشة):
= دا كتير أوي يا أستاذة حنين، مش عارفة أرد جمايلك دي إزاي.
حنين (تضحك بخفة):
= امشي يا عبيطة، مفيش جمايل بين الأخوات، مفهوم؟
هناء (تضمها بحب):
= ربنا يكرمك يا رب ويحققلك كل أحلامك.
حنين (وهي تبتسم والدموع تلمع في عينيها):
= آمين يا رب... أنا وانتي سوا يا حبيبتي.
تخرج هناء، وتفضل حنين مع إياد، تلعب معاه، وتطعمه بيدها، وتضحك على كل كلمة بيقولها، لحد ما ينام في حضنها وهي بتحس إن قلبها رجع ينبض من تاني.
تتبع
الكتابة صفاء حسنى
الصفحه الخامسة
استيقظت على صوت أذان الفجر. من حضن ابنها
توضّت، ولبست الإسدال، وصلت ركعتين بخشوع، كأنها بتستمد من السجدة قوة جديدة تخليها تواجه ذكرياتها.
بعد الصلاة، راحت المطبخ، حضرت فنجان كابتشينو، وقعدت على المكتب تكمل الرسالة اللي بدأها حازم.
رسالة حازم:
"إنتي عارفة، كان صعب عليّا أوي أرجع ألاقي بابا مات، وماما بعد شهور العدّة تتجوز عمّي...
رغم إني كنت عارف إن أمي ندمت على جوازها من بابا، لأنها عمرها ما فهمته ولا ارتاحت معاه."
توقف لحظة، كأنه بيرجع يعيش اللحظات اللي وجعته، وبعدين كمل:
"مريت بأيام صعبة جدًا...
وبقيت أهرب بالخروج الكتير، والسهر، والخمرة، والمخدرات...
كنت بهرب من همس الناس، وخصوصًا إني مشهور، وكل حاجة تخصني كانت على لسان الكل.
عملت كل حاجة غلط ممكن تتخيليها...
لحد ما كنت هخسر عضوية النادي بسبب استهتاري وإهمالي في حياتي الرياضية."
يتنهد بعمق وهو بيكمل اعترافه:
"وبعد فترة، كابتن حاتم كلّمني وقالّي:
'لازم تاخد راحة يا ابني في مكان بعيد قبل النهائيات، الفريق معتمد عليك، وكده هنخسر البطولة... انسَ كل حاجة.'
قلتله: 'حاضر.'"
حازم يكمل الكتابة:
"يوم ما شفتِك، قررت وقتها إني لازم أتعالج وأفوق من كل اللي كان في حياتي،
خصوصًا بعد اليوم اللي قضيناه سوا وسرحت فيه معاكي يوم كامل،
ومروحتش المكان اللي كنت بروحه دايمًا...
لجأت لصديق الطفولة... وليد."
(فلاش باك – حوار حازم مع وليد):
كانت الشمس بتغيب بهدوء، وأشعتها بتتسلل على ملامح حازم اللي باين عليه الإرهاق والتعب، عيونه محمرة من السهر، ووشه باهت كأنه فقد لون الحياة.
قاعد قدام صديقه القديم وليد، اللي كان في نظره طوق النجاة الوحيد بعد غرق طويل في ظلمة التيه.
وليد كان شايف قدامه مش اللاعب المشهور اللي الكل بيحبه، لكن الولد اللي اتربى معاه، اللي كان بيجري وراه في شوارع الحي الصغير زمان وهما بيلعبوا كورة بحلم بريء.
وليد بنبرة حزن ممزوجة بالغضب، وعيونه مليانة وجع:
"إنت إيه اللي عامله في نفسك يا حازم؟! حرام عليك... صحتك دي لو مش عشانك، عشان جمهورك اللي بيحبك وحاطط أمله فيك وفي فريقك."
رفع حازم نظره ليه، وصوته كان متكسر ما بين ندم وخوف:
"عشان كده جيتلك... أنا ضايع بقالى سنة كاملة، وخايف أخسر كل حاجة."
وليد شد على كفه بخفة، في لمسة صداقة صافية وقالله بثقة:
"إنت هتيجي معايا المصحة تتعالج، وبعدها ترجع تتدرب من تاني."
ضحك حازم بسخرية حزينة وقال:
"إنت بتعمل معايا كده ليه؟ كنت متوقعك تبعد عني، تتبرّى مني، وترفض صداقتي!"
ابتسم وليد وهو بيهز راسه وقال بخفة ظل:
"هههه، على أساس إن أبوك هو اللي هيتبرّى منك ولا إيه؟"
ابتسم حازم ابتسامة باهتة، فيها وجع وراحة في نفس الوقت:
"هههه، حاجة زي كده..."
وليد اتنفس بعمق وقالله وهو بيبص له بعيون كلها تقدير:
"بص، أولًا إنت صديق الطفولة مش صديقي اللاعب المشهور، وثانيًا...
الفضل اللي أنا فيه يرجع لعمّك عليّ الله يرحمه – والدك.
هو اللي ساعدني أكمل تعليمي، ورشّحني أدخل طب، وخصوصًا التخصص ده...
خلاني أتخصص في علاج الإدمان، عشان أساعد الشباب بعد ما بقت تجارة المخدرات عاملة زي الوباء."
سكت وليد لحظة، عيونه سرحت بعيد، وصوته بقى أهدى لكنه أعمق:
"أبوك كان دايمًا بيقول لي إنه شاكك إن في حد هو السبب في دخول السم ده البلد،
وإنها بقت منتشرة في الأحياء البسيطة بعد ما كانت للناس اللي معاها فلوس بس...
تخيّل بقت بثمن ساندوتش كفتة!
يعني في متناول الكل... وبتدمر الكل."
اتنهد حازم، ملامحه فيها تأمل وندم:
"فعلاً... وخصوصًا السنين الأخيرة دي."
ابتسم وليد وقال وهو بيحاول يرجع جو الأمل بينهم:
"أيوه، وفتح ليا المصحة عشان أعالج فيها الغني والفقير، وبمال الغني كنت بعالج الفقير."
رفع حازم راسه، نظراته امتنان صافي:
"بابا طول عمره بيعمل خير... شكراً يا وليد."
وليد حط إيده على كتفه وقال بابتسامة صافية:
"إنت صديقي... وابن صاحب الفضل عليّا.
عايزني أسيبك؟ مستحيل."
(سرد داخلي على لسان حازم – وهو بيكمّل في الرسالة)
"المهم يا حنين...
وليد أخدني واهتم بيا، لحد ما بقيت بصحة كويسة ومستعد أرجع أعيش.
بعد شهرين رجعت النادي...
كانوا أصعب شهرين في حياتي، بس كنت محتاجهم،
عشان اليوم اللي أتأكد فيه من إحساسي، تكوني فخورة بيا."
"بس مش كل اللي بيتمناه الإنسان بيتحقق..."
(فلاش باك جديد)
كان حاتم الكابتن واقف قدام حازم، بعينه القوية اللي فيها حنية الأب، وقال بحزم ودفء:
"أنت لازم تدرب وتعوّض اللي فات...
كنت متوقع إنك هتتغلب على ضعفك وحزنك،
إنت ابني اللي كبر قدامي، وعارف إنك قدها."
ضمه حاتم في حضنه، ووقتها حازم حس بالأمان اللي كان مفتقده من سنين.
رجع يتمسك بحلمه من جديد، سافر البرازيل،
قاد الفريق، وأحرز أهداف، ورفع اسم بلده وسط الملاعب.
رجع وهو فخور بنفسه... ومعاه الكابتن والفريق، والرعاة اللي وقفوا جنبه وشجعوه،
كان راجع بوش تاني... وشخص جديد اتولد من الرماد.
كانت الكلمات في رسالة حازم بتنساب كأنها أنفاسه الأخيرة...
"كنا فريق واحد، مفيش بينا غيرة ولا حقد، كل واحد فينا عنده موهبة مختلفة،
وكنا بنكمّل بعض عشان كده كنا فريق عظيم يشرف بلاده."
صوته في الرسالة كان فيه فخر ممزوج بحنين.
"ورجعت وانا ناوي ألتزم في كل حاجة،
بقيت بروح صلاة الجمعة مع عمي أبو وليد ووالدك،
وأحيانًا المقدم حسام بيكون معانا...
كنا بنتجمع في مسجد السيدة زينب."
صورة جديدة اتكونت في ذهن حنين:
وجه حازم بنوره الهادئ، دقنه الخفيفة، عيونه فيها راحة الإيمان بعد عاصفة طويلة من التيه.
"بقى وجهي مليان بالنور...
وبدأت أفوز في كل المباريات، كنت بكسبها كلها.
وكنت براقبك من بعيد...
وقررت أعترف بحبي ليكي يوم الحادثة.
انتى عارفة، بعدها بقيت مشلول...
جليس على كرسي متحرك، لا أقدر أتحرك ولا أهرب من نفسي."
تدمع عينا حنين...
كأنها شايفاه قدامها على الكرسي، مبتسم رغم الوجع.
"انتى كنتي الأمل اللي خلاني أعيش...
كنت بصحى وأنام وأنا براقبك من بعيد –
ضحكتك، نجاحك، حزنك، حتى يوم ما نجحتي في الثانوية..."
وتنقطع أنفاسها للحظة...
الدفتر بيقلبها لذكرياتها.
فلاش باك — قبل سنين طويلة
حنين وهي في ربيع عمرها، تجري في الشقة بصوت فرحة:
حنين: "مامااا... أنا نجحت! جبت سبعة وتسعين في المية!"
وفاء (بفخر ودهشة): "ألف مبروك يا بنتي! اقتصاد وعلوم سياسية بقى!"
حنين (بحماس): "حقوق إن شاء الله!"
وفاء (مستغربة): "حقوق؟ بعد التعب والسهر ده كله؟! حرام عليكي!"
محمد (بحنية وضحكة): "سيبيها براحتها يا وفاء...
هي شرفتنا وجابت 97٪، تدخل اللي هي عايزاه يا حضرة الناظرة."
وفاء (متذمرة): "هو دلعك ده اللي موديها في داهية! حقوق أبو 70%!
يا فرحتك يا فوفى!"
حنين (ضاحكة): "هههه، فوفى؟! بقى حضرت الناظرة بقيت فوفى؟!"
العودة إلى الحاضر...
حنين تغلق الدفتر على صوت بكاء صغيرها إياد.
إياد (بيبكي): "ماما... مامااا!"
حنين (تجري عليه): "حبيب ماما، أنا هنا... مالك يا قلبي؟"
إياد (بدموع): "هو بابا هيرجع امتى؟"
حنين (بحزن رقيق): "حبيبي، بابا في مكان أحلى من هنا...
في السماء، عند ربنا."
إياد (بحرقة طفولية): "ممكن أطلع عنده؟ وحشني قوي...
إنتي وهو سبتوني، وأنا هناك عند جدو بقعد لوحدي وبخاف."
حنين (تحضنه وتبكي بخفوت):
"بعد الشر يا حبيبي... تعالَ معايا نتفسّح في مكان يجنن النهارده."
إياد (يمسح دموعه): "بجد؟"
حنين (بابتسامة باهتة): "أه يا قلب ماما."
كانت الساعة تسعة صباحًا، والشمس لسه بتداعب الشوارع بخيوطها.
خرجت حنين مع إياد على النادي اللي فيه ملاهي وألعاب.
هو نفس النادي اللي حازم عضو فيه.
قضوا هناك يوم جميل، بين ضحك إياد وصوته العالي في الألعاب،
وهي كانت بتصلي الظهر والعصر في مسجد داخل النادي.
سمعت صوت مؤذن صوته مميز جدًا... هز قلبها من جوه.
الراوي:
"الصوت ده كان مألوف... كأنه لمسة من ماضيها البعيد."
خرجت من المسجد وهي بتدور بنظرها يمين وشمال،
بس مفيش حد... ومع كده قلبها كان بيقول "هو هنا..."
وهي خارجة من بوابة النادي، سمعت سيدتين بيتكلموا:
السيدة الأولى (منبهرة):
"الله! صوته حلو أوي، طلع مش بس وسيم ورياضي، ده كمان صوته حلو في الأذان!"
الثانية (مندهشة):
"ده كابتن حازم! بيقولوا استشيخ بقى... بس شيخ عسل."
الأولى (تضحك):
"واللحية مخلياه وسيم أكتر."
ابتسمت حنين بخفة، قلبها اتخطف للحظة...
إزاي ما ركزتش في ملامحه قبل كده؟!
وقفت تاكسي.
كانت عندها عربية، لكن بعد الحادثة بقيت بتخاف تسوق، خصوصًا وإياد معاها.
ولما وصلت البيت، لقت عمها حسام وزوجته ريم رجعوا من السفر.
كانت فرحانة جدًا، حضّرت لهم أشهى الأكلات، وجهّزت السفرة بحب.
حنين (من المطبخ بصوت عالي):
"عمّي حسام... الأكل جاهز!"
حسام: "جاي يا حنين!"
خرجت ريم من أوضتها بعد ما بدلت هدومها، ملامحها مرتاحة وبتضحك:
ريم: "ليه تعبتي نفسك كده يا سمسم؟!
ده عمّك بياكل لقمتين على بعضهم،
وانتي يا بنتي لحقتي تعملي كل ده امتى؟!"
حنين (بخفة دم):
"تعب إيه يا ست الكل، حاجات بسيطة.
ألف مبروك يا عروسة... والله فرحانة ليكم أوي،
وما صدقت بعد ماما وبابا إنكم وافقتوا تعيشوا معايا."
ريم (بحنية):
"الله يرحمهم يا بنتي... بس بجد، عملتي ده كله امتى؟
ما انتي كنتي مع إياد من الصبح!"
حنين (تضحك):
"محضراه من امبارح يا ستي...
ومن بعد العصر بفضل لوحدي بتسلى."
حسام (منبهر):
"إيه ده كله؟! فراخ مشوية، مكرونة بشاميل، كفتة، لحمة وسلطات؟
دي وليمة يا بنتي!"
حنين (تغمز له):
"عشان أعجب بس!
مش كنت بتقول مش هفلح في حاجة؟"
حسام (ضاحك):
"قلبك أسود يا شيخة!"
حنين (بمرح):
"لا والله بهزر!"
حسام:
"ههههه، انتي بقيتي شاطرة أهو...
يا ستي، انتي تعجبي الباشا كده!"
حنين (بابتسامة فيها غموض):
"ربنا يسهل."
حسام استغرب الجملة في سره.
هي دايمًا كانت بترفض أي كلام عن الزواج بعد اللي حصل،
بس المرة دي... نبرتها كانت مختلفة.
يمكن... الأمل بدأ يدق تاني؟
بعد الأكل، دخل حسام الصالة وهو ماسك إياد على كتفه:
حسام: "إنتوا فين؟! إياد غلبني في اللعبة!"
حنين (ضاحكة): "بجد يا إياد؟!"
إياد (بفخر): "أيوه يا ماما، غلبته! أنا شاطر!"
حنين (بحب): "حبيب ماما إنت!"
حسام (مازحًا): "كنتم بتتكلموا في إيه؟ أوعى تكونوا جايبين سيرتي!"
ريم (تضحك): "هههه، طبعًا... هو في غيرك في القلب والعين!"
حسام (مازحًا): "بدأ البكش بقى!"
---
كانت الأجواء في البيت هادية، والضحكة ماليه المكان.
ريم بابتسامة خفيفة:
"الله يسامحك يا حنين، أنا بكّاشة؟!"
حنين ضحكت وهي تبص لحسام:
"حرام عليك يا عمو، من ساعة ما جت وهي بتشكر فيك، وفى الآخر تقول كده؟!"
حسام رفع إيده باستسلام وهو بيضحك:
"اتحالفتوا عليّ! ربنا يسترها... وقعت مع كتيبة، محامية وصحفية، أروح منكم فين؟!"
ريم بابتسامة:
"اه صحيح، إيه أخبار الشغل مع عمو حسين؟"
حنين بحماس بسيط:
"تمام الحمد لله... محامي شاطر وعنده ضمير، وده نادر في الزمن ده."
ريم:
"فعلاً، عندك حق."
حنين قامت وهي بتجمع حاجة بسيطة من الترابيزة:
"استأذن بقى، إياد نام... هاخده من عند عمه. تصبحوا على خير يا جماعة."
كانت بتقصد تديهم مساحة يحسوا إنهم في بيتهم بجد.
ريم بصت وراها وقالت بودّ:
"تصبحي على خير يا حنين."
بعد شوية دخلوا أوضتهم، والهدوء رجع تاني.
حسام جلس على طرف السرير وقال وهو بيبص لها بنظرة كلها دفء:
"حاسس إن حنين اتغيرت... صح؟"
ريم بتأمل:
"فعلاً... كانت دايمًا ساكتة ومبتتكلمش كتير.
فاكر لما كنت بتكلّمها عنك؟ قلتلها ربنا يرزقك واحد زيك،
ابتسمت وقالت بهدوء: أمين يا رب."
قرب حسام منها خطوة بخفة، وصوته نزل لدرجة الهمس، فيه حنية مميزة:
"قولتي إيه عني بقى؟"
ريم اتلخبطت، وبصت للأرض بخجل، وبدأت ترجع لورا لحد ما لمست الحيطة.
حسام قرب أكتر، وصوته اختلط بنفسها:
"هتروحي مني فين؟ إنتِ خلاص... دخلتِ جوا هنا."
وأشار بإيده على صدره ناحية قلبه.
نظرت له ريم بعينين فيها دفء وحب وسكوت طويل...
اقترب منها بهدوء، واحتواها بين إيديه، فذابت اللحظة في سكون الليل...
بين خجلها وحنانه، تلاقت أرواحهم قبل ما تتلامس الأيادي.
تكملة الرواية من هناااااااا


تعليقات
إرسال تعليق