القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية احببت نصابا الفصل الخامس والسادس بقلم نسرين بلعجيلي حصريه في مدونة قصر الروايات


رواية احببت نصابا الفصل الخامس والسادس بقلم نسرين بلعجيلي حصريه في مدونة قصر الروايات 




رواية احببت نصابا الفصل الخامس والسادس بقلم نسرين بلعجيلي حصريه في مدونة قصر الروايات 



**أحببتُ نصّابًا**


بقلم : نسرين بلعجيلي

Nisrine Bellaajili


الحلقة 5


كانت ليلةً طويلة. جلست نور إلى مكتبها بعد أن عادت من المقهى مع سلمى وفيروز وياسمين وفرح.

الورقة التي كتبت فيها أسئلتها وحدودها لا تزال أمامها :

– شغلك الحالي؟

– مين "الناس"؟

– إيه حدود وجودك في حياتنا؟

– أي علاقة ليك بالقضية؟


طوت الورقة ووَضعتها في حقيبتها، قبل أن تمرّ على مريم النائمة وتطبع قبلةً على جبينها.

تمتمت وهي تطفئ النور :

– يا رب… إن كان خيرا فثبّتْه، وإن كان شرّا فاصرفْه.


نامت أخيرًا بعد أيامٍ من التوتر، وكأن الدعاء كان سندها الوحيد.


---


في صباح اليوم التالي، إستيقظت على رنّة الهاتف. ظهر إسم المحامي على الشاشة. إنقبض قلبُها، ورفعت السمّاعة..


نور (متوترة) : أيوه يا أستاذ محمود؟


المحامي (بحماس) : مبروك يا مدام نور. القضايا كلها خلصت لصالحك.

الفيلا من حقك ترجعي لها فورًا، الحساب البنكي اتفتح، وكل الأملاك اللي كان كاتبها المرحوم بإسمك طلعت قانونية مية في المية، لا تزوير ولا حاجة.


نور (شهقت) : يعني كل اللي قاله حامد كان كِذب؟


المحامي : بالظبط. هو كان بيحاول يوقّف لك حياتك ويستغلك. إنما خلاص، الأمور اتحسمت رسمي.


أغلقت المكالمة ودموعها نازلة. شعرت أن الله أنصفها أخيرًا بعد شهورٍ من الانكسار. مسحت دموعها سريعًا ونظرت إلى ابنتها وهي تخرج من غرفتها تفرك عينيها. ضمّتها بقوة وقالت في سرّها :

– من النهارده بداية جديدة ليا وليكِ يا مريم.


---


في الوقت نفسه، كان رياض جالسًا في سيارته يراقب بيتها من بعيد.

رنّ هاتفه : المحامي أيضًا إتصل به ليبلغه أن القضية خلصت.

إبتسم رياض إبتسامة غامضة وقال بصوتٍ منخفض لنفسه :

– حان وقت الجدّ، الفلوس رجعت، والفيلا رجعت، دلوقتي بقى أبدأ الخطة.


ضغط زرّ الاتصال، واتصل بنور.


نور (وهي لا تزال تمسح دموعها) :  ألو؟


رياض (متحمّس) : مبروك يا نور، سمعت الخبر. أخيرًا هترتاحي، خلاص إنتهى زمن الخوف.

(يسكت لحظة، وبنبرة أقرب للإلحاح) شايف إن الوقت جه نرتّب لمستقبلنا، نبدأ نخطّط لمشروعنا، ونجهّز للجواز.


بعد أن أنهت المكالمة مع المحامي، جلست نور على طرف السرير، وابتسمت ابتسامةً باهتة. دخلت عليها مريم تركض..


مريم (بحماس طفولي) : ماما، هنرجع بيتنا الكبير؟ الفيلا؟


ضمّتها نور بسرعة، وانهمرت دموعُها غصبًا عنها : يا حبيبتي الفيلا دي مليانة ذكريات وجراح. بابا الله يرحمه كان فيها، والوجع كله لسه موجود على الحيطان. مش قادرة أعيش فيها تاني.


مريم (ببراءة) : بس أنا عايزة أوضتي القديمة.


نور (بهدوءٍ حاسم) : لأ يا بنتي، هنبدأ من جديد. بيت جديد، حياة جديدة.


---


بعد ساعات، كان رياض جالسًا معها في المقهى الذي اعتادا اللقاء فيه. بدا متحمّسًا، وفي عينيه بريقٌ غريب.


رياض : مبروك تاني يا نور. دي فرصة نرتّب حياتنا. الفيلا رجعت، الحساب اتفتح، كل حاجة بقت تحت إيدِك.


نور (تشدّ وشاحها، وصوتها متردد) : أنا مش ناوية أرجع الفيلا يا رياض. المكان ده بيخنقني.


تفاجأ، وحاول إخفاء انزعاجه : طب على الأقلّ ممكن نأجرها أو نبيعها وندخل الفلوس في مشروع مضمون.


نور (بقلق) : مشروع؟


رياض (مبتسم باصطناع الطمأنينة) : حاجة صغيرة كده. أنا عندي خبرة في التجارة، نِفتح مكتب مقاولات أو نستثمر في شقق للإيجار. وإنتِ مش هتعملي حاجة، أنا اللي هدير الموضوع كله.


شعرت نور بانقباضٍ في قلبها. نظرت إلى فنجان قهوتها كمن يهرب من عينيه : رياض… أنا لسه خارجة من قضايا ومشاكل. كل اللي محتاجاه دلوقتي أمان واستقرار. مش مشاريع جديدة.


ضحك بخفةٍ كأنه يتغاضى: طيب، زي ما تحبي. بس شوفي، أنا دلوقتي داخل على مشروع مع واحد صاحبي ومحتاج شوية سيولة عشان أكمّل، مبلغ صغير، بس هيفرق معايا. أكيد مش هتتأخّري عليّا.


رفعت نور عينيها إليه، وصمتت ثوانٍ طويلة. كان عقلها يردّد : هو فعلًا محتاج؟ ولا دي أول خطوة من سلسلة طلبات؟

لكنها، بقلبها الطيب، قالت : حاضر، بس المرّة دي وبس.


---


في الطريق إلى البيت، كانت نور تمسك حقيبتها بيدها، وقلبُها يخفق بسرعة. خطواتها على الرصيف ثقيلة، كأنها تمشي على جسرٍ يتشقّق تحتها.

كلّ كلمة قالها رياض عن "المشروع" كانت تتردّد في أذنيها كصدى مُزعج.


قالت في سرّها : أنا ليه مش مرتاحة؟ ليه كل مرة أساعده بحسّ إني بقرّب خطوة ناحية الهاوية؟


رفعت عينيها إلى السماء، فرأت الغيوم تغطّي القمر، وليس سوى نجمةٍ وحيدة تلمع بعيدًا، إبتسمت ابتسامةً باهتة وقالت في داخلها :

– يمكن دي إشارة يا رب، إن النور لسه بعيد، بس موجود.


دخلت البيت، ونظرت إلى مريم وهي نائمةٌ ببراءة، فانحدرت دمعةٌ من عينها دون أن تشعر. شعرت أن قلبها يتنازع بين إحساسين متناقضين : أمانٌ تحاول أن تصدّقه، وخطرٌ يوسوس في أعماقها.


أغلقت باب الشقة بيدٍ مرتجفة، وكأنها تحاول حماية نفسها من عاصفةٍ لا تعرف متى ستضرب.

إتجهت إلى المكتب الصغير، وحاولت أن تكتب في مفكرتها تفضفض :


«كل مرة بدي له فرصة بلاقي نفسي  محاصَرة أكثر. هو بيقول مشروع، وأنا شايفة اختبار.

يا رب… لو كان خيرًا لي ولابنتي، بارك فيه. ولو شرًّا، إكشفه بسرعة قبل ما نتورّط».


وضعت القلم، وأخذت تُطِلّ على مريم وهي نائمةٌ بسلام. مرّرَت يدُها على شعرها وهمست :

– إنتِ أماني يا بنتي، ومش هسمح لحدّ يكسّر دنيتنا.


رنّ هاتفُها فجأةً على الطاولة. نظرت إلى الشاشة، كان رقم رياض.

ترددت لحظةً، وانقبض قلبها. فتحت المكالمة، فسمعت صوته بنبرةٍ مريبة...


رياض (بصوتٍ متعجّل، فيه شيء من التوتر) : نور، افتكرت حاجة مهمة. لو حدّ سألِك عنّي، عن شغلي، قولي إننا مخطوبين وخلاص.

(يسكت لحظة)

– مش لازم يعرفوا أي تفاصيل تانية دلوقتي.


عقدت نور حاجبيها : ليه؟ في إيه يا رياض؟


رياض (يحاول يضحك ويخفّف) : لا، ولا حاجة، بس إنتِ عارفة، الناس بتتكلم كثير. خليكِ معايا وخلاص.


أغلقت الخطّ بعد كلامه، وظلّت تحدّق في الشاشة المُظلمة. إحساسٌ غامض ضربها، كأنها وقفت عند أول بابٍ في متاهة، ومضطرة أن تدخل من غير أن تعرف آخرها أين.


وضعت الهاتف بجانبها، وأسندت رأسها إلى الحائط.

كان الظلام في الغرفة يخنق أنفاسها، لكنها همست بهدوء : لازم أعرف قبل ما يفوت الأوان.


كان المساء دافئًا بشكلٍ غريب. جلست نور مع رياض في كافيه أنيق على النيل. كان يتكلّم بحماسٍ غير عادي، وعيناه تلمعان وهو يرسم بيده خريطةً لمستقبلٍ مليءٍ بالوعود.


رياض (منفعل، صوته مليان شغف) : شوفي يا نور، أنا لقيت مكتب صغير نِقدر نبتدي منه. مش كبير، بس موقعه ممتاز. هنخلّيه مقرّ لمشروع المقاولات، ونكتب العقود بإسمِك ،إنتِ تبقي الواجهة المحترمة، وأنا أشتغل وأدير.


نور (بترددٍ خفيف، لكن ابتسامة صغيرة تظهر) : المشروع كبير يا رياض، أنا مش فاهمة في المقاولات ولا التجارة.


رياض (يمسك يدها برفق، صوته دافئ) : علشان كده أنا هنا. إنتِ مش محتاجة تفهمي في التفاصيل. وجودك جنبي كفاية. صدّقيني إحنا هنعمل حاجة تخلّيكِ فخورة.


سكتت لحظة، وقلبُها يدقّ بسرعة. نظرت في عينيه، فشعرت بصدق، أو على الأقل أرادت أن تُصدّق.


بعد أيامٍ قليلة، كانت نور مع مريم في بيتها، وأوراق المشروع مفتوحة على الطاولة. كانت مريم ترسم قلوبًا وبيوتًا صغيرة على ورق أبيض، بينما تحاول نور مراجعة أرقامٍ لا تفهم فيها كثيرًا.


دخلت عليها سلمى ومعها فيروز. كانت نظرة سلمى حادّة من أول لحظة.


سلمى : إنتِ لسه داخلة في مشروع معاه؟ يا نور، إنتِ بتكرّري نفس الغلطة.


نور (تحاول أن تبتسم) : لا يا سلمى، المرّة دي مختلفة. رياض متحمّس جدًا، وبيشتغل من قلبه.


فيروز (تهزّ رأسها ببطء، نبرتها مليانة تحذير) : الحماس مش دليل، يا نور. النصّاب دايمًا بيبان أكثر واحد متحمّس ومليان وعود.


نور (تتنهد، لكنها تحاول الدفاع) : هو قالِّي إن العقود هتكون كلها بإسمي وإن أنا الواجهة. يعني مش ممكن يضرّني.


سلمى (بحزم) : دي أخطر جملة! "كل حاجة باسمك وأنا أدير" يعني لو وقع في مصيبة أو ديون، إنتِ اللي هتشيلِي. هو كده بيحمي نفسه ويحطّك إنتِ في النار.


سكتت نور، وبهتت إبتسامتها الصغيرة.


---


في المساء التالي، كان رياض جالسًا معها في البيت، يشرح خطط المشروع بحماس. فجأةً اتخذ صوته نبرةً مختلفة، أقرب إلى السيطرة..


رياض (بهدوءٍ متعمَّد) : بصي يا نور أنا عارف إنك ساعات بتصرفي من غير ما تركّزي. إنتِ مُبذّرة شوية. علشان كده الأفضل إن الميزانية تبقى معايا.


نور (ترفع حاجبها بدهشة) : معاك إزاي يعني؟


رياض (مبتسم وكأنه بيهزر) : يعني الحسابات والمصاريف أنا اللي أديرها. حتى كروت البنك سيبيها معايا. أنا أأمن. كده نضمن إن الفلوس تفضل في مكانها وما يضيعش منها حاجة.


نور (تضحك بتوتر) : بس دي كروتي أنا!


رياض (يمسك يدها بحنانٍ مُصطنع) : يا حبيبتي، إنتِ مش لوحدِك دلوقتي. إحنا واحد. واللي ليا… ليكي. واللي ليكي… ليا.


إختلط الأمر على قلبها. جزءٌ منها يريد أن يُصدّق أنه يتكلم بحبّ ومسؤولية، وجزءٌ آخر سمع صدى صوت سلمى :

«كل حاجة باسمك وهو يدير.»


بعد أن غادر رياض بيت نور، تُركت كروت البنك على الطاولة. نظرت إليها بتوترٍ كأنها ترى فخًّا يلمع أمامها. أمسكتها ووضعتها سريعًا في الدرج، لكن قلبها لم يطمئن.


في اليوم التالي، جاءت ياسمين لزيارتها. كانت دائمًا أهدأ واحدة في المجموعة، لكن كلماتها تنفذ كالسّكين الناعمة.


ياسمين (بهدوء وهي تحتسي القهوة) : يا نور… ممكن أسألك سؤال من غير ما تزعلي؟


نور (تبتسم ابتسامةً صغيرة): إسألي يا ياسمين.


ياسمين (تنظر إليها مباشرة) : الراجل ده… رياض. من يوم ما دخل حياتِك، عمرك خذتي منه حاجة؟ جاب لك هدية؟ دفع حاجة من جيبه؟ حتى عزومة بسيطة؟


نور (تتجمّد لحظة، ثم تضحك بخِفّةٍ مرتبكة) : لأ، هو ما جابليش. بس مش مهم الهدايا.


ياسمين (بصرامةٍ ناعمة) : مش قصدي هدية. قصدي هل عمرك حسّيتي إنه بيصرف عليكِ أو واقف معاكِ ماديًا؟


نور (تتنهد وتنظر إلى الأرض) : لأ. الحقيقة كل مرة محتاج حاجة، باطلب منه أنا أساعده. وهو بيقول إنه مش في وضع يسمح دلوقتي.


ياسمين (تسند ظهرها وتتنهّد) : يبقى إسمعيني كويس يا نور. الراجل اللي أول ما يدخل حياتِك يخليكِ مصدر دعمه المادي، ده مش شريك، ده حمل. إنتِ خارجة من قضايا وحروب، محتاجة حدّ يدِّيكِ أمان، مش يسحب منكِ.


نور (بصوتٍ واطٍ، كأنها تحدّث نفسها) : هو بيقول إن كل حاجة بإسمي، وأنا الواجهة، وهو بس بيدير. ساعات بحسّ إنه بيتعامل معايا زي بنك، مش زي إنسانة.


ياسمين (بحزم) : بالظبط. لو إنتِ بنك يبقى في يوم هيتعامل معاكِ كـ"رصيد" مش كروح ولا قلب.


تأثّرت نور كثيرًا، وانحدرت دمعةٌ على خدّها. شعرت لأول مرةٍ أنها تنطق الحقيقة التي كانت تهرب منها.


كانت نور لا تزال تمسح دموعها سريعًا حين دقّ جرس الباب. وقع قلبها لحظة، قامت تفتحه، فوجدت رياض واقفًا بابتسامةٍ عريضة، يحمل في يده ظرفًا صغيرًا.


رياض (بمرحٍ مُصطنع) : إيه يا ستّ الكل، وحشتيني. قلت أعدّي أطمن عليكِ.


دخل وهو لا يزال يتكلم، لكن فجأةً لمح بعينيه ياسمين جالسةً على الكنبة. إنكسرت إبتسامته ثواني قبل أن يُعيدها بسرعة.


رياض (بهدوءٍ مُصطنع) : أهلًا يا أستاذة ياسمين، منوّرة.


ياسمين (بابتسامة مجاملةٍ باردة) : منوّر بأصحاب البيت.


جلس رياض، وألقى بالظرف أمام نور.


رياض (بلهجةٍ استعراضية) : دي أوراق المكتب اللي كلّمتِك عنه. خطوة أولى في مشوار كبير.


فتحت نور الظرف، فوجدت أوراقًا مطبوعة عن مكتبٍ صغيرٍ للإيجار وعقودًا أولية. إزداد انقباض قلبها.


ياسمين (تنظر إليه بثبات) : مشروع كبير كده محتاج مصاريف كثير. إنت هتغطي منين يا أستاذ رياض؟


رياض (يظبط جلسته، صوته فيه ثقةٌ مفتعلة) : أنا مش لوحدي. نور جنبي… وهي اللي هتكون الواجهة. كل حاجة بإسمها، عشان تبقى الدنيا قانونية ونظيفة. وأنا… أنا اللي هشتغل وأدير.


ياسمين (تبتسم ابتسامةً ساخرة) :

– غريبة… لسه باسأل نور: هل عمرك دعمتها ماديًّا؟ جبت لها حاجة؟ صرفت عليها يوم؟ ردّها كان "لأ".


توترت نور جدًا، وحاولت أن تقاطع :

– ياسمين…


لكن رياض رفع حاجبه وضحك بخِفّة : يا سلام! هو الحبّ بقى هدايا وفلوس؟ أنا بدّيها حياتي ووقتي. وصدقيني يا أستاذة ياسمين، أي فلوس عندها هي فلوسي. وإحنا واحد.


شعرت نور بالأرض تتزلزل تحتها. دقّت الكلمة في رأسها كجرس إنذار : "أي فلوس عندها هي فلوسي".


ياسمين (بهدوءٍ ساخر) : أهو الفرق واضح. فيه راجل يقول: "فلوسي ليها". وفي راجل يقول: "فلوسها ليا".


ساد الصمت، وشعرت نور أن الكلام طعنة، لكنه أيضًا صحوة.


جلست صامتةً، وعيناها معلّقتان في الفراغ، ومئة سؤالٍ يتلاطم بداخلها. حاول رياض أن يستعيد إبتسامته كأن شيئًا لم يحدث، فيما نهضت ياسمين، رتّبت حقيبتها وقالت بهدوء...


ياسمين : أنا قلت اللي عندي والباقي ،عندِك يا نور.


مضت وتركت وراءها فراغًا ثقيلًا. مدّ رياض يده على الطاولة ليحاول إمساك يد نور، لكنها سحبتها بهدوء.


نور (بصوتٍ واطٍ، كأنها تكلم نفسها) : "في راجل يقول فلوسي ليها… وفي راجل يقول فلوسها ليا."


ارتجّت العبارة داخلها كجرس إنذار، وأسدل الستار على تلك الليلة، تاركًا رياض غارقًا في غموض ابتسامته… ونور غارقةً في حيرة قلبها.


خرجت ياسمين من الباب، وبقي الصمت يملأ الغرفة. جلست نور، ويدَاها متشابكتان أمامها، وعيناها تهربان من عيني رياض.


رياض (يميل إلى الأمام، صوته مليان انفعال) : أنا مش فاهم! إيه لازمتهم أصلًا في حياتك؟! كل ما نتقدّم خطوة، ألاقيهم راجعين يعقّدوا الأمور.


نور (بهدوءٍ متوتر) : دول صحابي يا رياض، بيخافوا عليَّ.


رياض (يرفع صوته قليلًا) : لا، دول بيشكّكوك فيَّ! بيفرّقونا. أنا بحبّك يا نور، وبقولك أهو: لو عايزة العلاقة دي تكمل، لازم تبعدي عنهم.


نور (تنظر إليه بدهشةٍ وجرح) : تبعدني عن صحابي؟! اللي وقفوا جنبي سنين وأنا مكسورة؟


رياض (يحاول أن يمسك يديها بقوة) : أنا مش عايز غيرك، كل حاجة في حياتي بقت إنتِ. همّا مش شايفين اللي بينّا، بيغيروا منّا.


نور (تسحب يديها بسرعة) : لا يا رياض، اللي بيغير مش همّا. اللي خايف… إنت.


سكت لحظة، وتغيّر وجهه. تحطّمت ابتسامته التي كان يستخدمها سلاحًا، وخرج صوته خشنًا...


رياض (بإصرار) : لو بتحبّيني بجد إسمعي كلامي. أنا وإنتِ بس. الدنيا كلها ضدّنا، فاهمة؟!


تنفّست نور ببطء، وقلبها يخفق، وعقلها يصرخ : "دي أول علامة يا نور… أول محاولة إنه يعزلك."


جلست نور مقابله، ويدَاها متشابكتان، وعيناها معلّقتان في نقطةٍ بعيدة. كان رياض لا يزال مُصمّمًا على الاقتراب، وصوته مليئًا بالغيرة والغضب المختبئ، وابتسامته متكسّرة.


رياض (يحاول أن يسيطر على صوته) : أنا مش باطلب منكِ حاجة صعبة. باطلب تبعدي عن الناس اللي بيشوّشوا عليكِ. إحنا محتاجين نركّز فينا، مش في أي حدّ تاني.


نور (ترفع عينيها ببطء، صوتها ثابت لكن قلبها يرتعش) : رياض، اللي بيحبّ بجدّ، ما يعزلش. اللي عايز يبني بيت، ما يهدّش البيوت اللي حواليه.


رياض (بحِدّةٍ مكبوتة، يضرب كفّه على الطاولة) : أنا بخاف عليكِ، فاهمة؟ بخاف يبعدوكِ عني.


نور (بحزن، تهزّ رأسها) : ولا يمكن تكون المشكلة إنك خايف إنهم يفتحوا عينيّ على حاجات أنا مش شايفاها؟


إتسعت عيناه لحظةً، كأنه انكشف، لكنه أعاد سريعًا ابتسامةً باهتة. مدّ يده محاولًا إمساك يدها ثانية :

 أنا بحبّك يا نور… وحياتي من غيرك ملهاش معنى.


سحبت نور يدها وقامت واقفة. كان قلبُها يخفق، لكن كلام ياسمين وسلّمى يرنّ في أذنيها :

«فيه راجل يقول فلوسي ليها… وفيه راجل يقول فلوسها ليا.»


نور (بهدوءٍ قاتل) : رياض… الحب مش امتلاك. ولا تحكُّم. الحب أمان. لو مش قادر تفهم ده، يبقى إحنا مش ماشيين في نفس الطريق.


سكتت لحظة، ونظرت إليه نظرةً فيها وجعٌ وخوفٌ وأملٌ ممزوج :

 وأنا لسه عندي أسئلة كثير. ومش هسكت لحدّ ما أعرف الحقيقة.


غرقت الغرفة في صمتٍ ثقيل. عضّ رياض شفتَيه، وفي عينيه نارٌ مكبوتة. شعرت نور أنها أخيرًا قالت أول كلمة مواجهةٍ بحقّ. مواجهةٌ قد تغيّر مصير القصة كلّها.


إمتلأت الغرفة بصمتٍ خانق. جلست نور تقابل رياض، وقلبُها يدقّ بسرعة، والورقة التي كتبت فيها أسئلتها كأنها تحرق جيب حقيبتها.

أخذت نفسًا عميقًا، ونطقت لأول مرةٍ بنبرةٍ حادّة.. 


نور (بحزم) : رياض… أنا تعبت من اللفّ والدوران. دلوقتي هسألك ومش هسكت لحدّ ما أسمع رد.


رياض (يرسم ابتسامةً باردة، ويَميل على الكرسي) : إسألي يا نور، يمكن تلاقي اللي يرضيكِ.


نور (عيناها تلمعان بدموعٍ مكبوتة) :

 إنت مين؟ بجد، إنت مين؟


ضحك رياض فجأةً ضحكةً غريبة كسرت سكون الغرفة. إنحنى للأمام، وعيناه تلمعان ببريقٍ مظلم وقال :

 أنا… شيطانك. الشيطان اللي هتفضلي تحبّيه حتى وإنتِ خايفة منه.


شهقت نور، ووقع قلبها. لكن بدلًا من التراجع، فتحت ورقتها، وارتعش صوتُها وهي تُلقي الأسئلة واحدةً وراء الأخرى :

– شغلك إيه بالظبط؟

– مين الناس اللي ماسكاك؟

– ليه عايز كل حاجة بإسمي وأنا مجرد واجهة؟

– ليه عمري ما شفت منك غير طلبات؟

– ليه عمري ما حسّيت إنك سند؟


رياض (يحاول أن يضحك، يقاطعها، ويُغيّر نبرته من هدوءٍ إلى حدّة) :

 إيه ده؟ محكمة ولا جلسة تحقيق؟! إنتِ مش فاهمة حاجة يا نور. فيه حاجات أكبر من عقلك، أنا بحميكِ من حاجات لو عرفتيها ممكن تموّتك.


نور (تضرب بيدها على الطاولة) :

 لأ! إنت بتهرب. كل ما أسألك، تزوّد الغموض. أنا مش لعبة في إيدك.


رياض (يرتفع صوته لأول مرة، وعروقه بارزة) :

 كفاية يا نور! إنتِ مش قادرة تستوعبي إنك لو مشيتي ورايا، هتبقي في أمان. ولو عاندتيني هضيّعي كل حاجة.


وقف فجأة، وفي عينيه شرارةٌ غريبة.


نور (بصوتٍ متكسّر، ودموعها تنهمر) : رياض… ما تمشيش. أنا.. أنا مش قادرة أخسرك.


رياض (يلبس ابتسامةً غامضة، ويميل عليها همسًا) :

 وهنا بَقى الفرق يا نور، إنتِ محتاجاني. وأنا عارف ده كويس.


إستدار، وأخذ معطفه، وخرج بخطواتٍ ثقيلة.


أُغلِق الباب، وبقيت نور في مكانها كتمثالٍ مكسور. كانت دموعُها سيلًا، ويداها ترتجفان وهي تهمس :

 أنا باعشقه… حتى لو هو شيطاني. أنا ضعيفة، ومش قادرة أعيش من غيره.


سقطت على الكنبة، ووجهُها مدفونٌ في كفَّيها، وصوتُها يتكسّر في العتمة:

 يا رب… أنقذني من حبّه، أو أنقذني بيه.

**أحببتُ نصّابًا**


بقلم: نسرين بلعجيلي

Nisrine Bellaajili


الحلقة 6


كانت الغرفة غارقةً في السكون، وقد غفَت نور أخيرًا بعد صراع طويل مع الأرق. لكن النوم لم يَجلب لها الراحة، بل جلب كابوسًا.


رأت نفسها واقفة أمام مشهد مرعب :

رياض يجلس على الأرض في مكان مظلم، تحيط به دائرة نار تتصاعد وتعلو حتى تكاد تلامس السماء. نصف وجهه غارق في الظلام، والنصف الآخر يضيئه وهج اللهيب. بين أصابعه سيجارة، والدخان يتشكل إلى وجوه غريبة تلتوي وتضحك.


إنقبض قلب نور، فصرخت وهي تمد ذراعيها...


نور : رياض! قوم، إبعد عن النار 


لكن فجأة، ظهرت إمرأة عجوز من العدم، ملامحها حادة وعيناها تشعّان بغموض. رفعت يدها وأوقفتها عن التقدّم، وصوتها خرج عميقًا كأنه يدوّي في أرجاء المكان..


العجوز : توقفي يا بنتي، دا مش رياض.


نور (شهقت) : إزاي مش رياض؟ دا هو قدّامي.


العجوز (تهزّ رأسها ببطء، وصوتها يزداد رهبة) :

 ده واحد تاني، واحد ما نعرفوش. إوعي تفتكري إنك تقدري تنقذيه، النار دي مش ليكِ.


حاولت نور التحرّك، لكنها وجدت قدميها متسمّرتين في الأرض، كأنها مربوطة بسلاسل خفية. غطّى الدخان المشهد أكثر، وضحكة شيطانية خرجت من رياض، ضحكة مزّقت قلبها وأخافتها في الوقت نفسه.


صرخت بكل قوّتها :

– ريــــــــاض!


وفجأة، إنفجرت النار حوله وغطّت كل شيء.


---


إستيقظت نور وهي تصرخ، غارقة في عرقها، أنفاسها متقطعة، ويداها ترتجفان بعنف. نظرت حولها في ذعر… الغرفة مظلمة، لكن رائحة الدخان ما زالت عالقة في أنفها، وصدى ضحكته ما زال يدوي في أذنيها.


قامت بسرعة، أمسكت هاتفها واتصلت به. الرنّة مشت… ومشت… لكن لم يرد أحد.

إنهمرت دموعها وهي تهمس لنفسها :

– يا رب، هو فين؟ هو فعلًا رياض ولا واحد تاني؟


---


في مكان آخر، كان الليل يثقل بجدرانه على روح رياض. جلس في غرفة شبه مظلمة، سيجارة بين أصابعه، والدخان يتصاعد كسحاب خانق. وفجأة، فُتح الباب ودخلت صفاء.


شَعرها الكيرلي المتشابك يتدلّى على وجهها بلا نظام، عيناها سوداوان كأنهما بئر بلا قاع، بيرسينغ صغير يلمع في أنفها مع الضوء الخافت. جسدها ضئيل بلا ملامح أنوثة، لكن حضورها كان طاغيًا. رائحتها مزيج من السجائر والخمر، وخطواتها على الأرضية تحمل رهبة صامتة.


صفاء (ببرود ساخر) : لسه بتلعب لعبة العاشق؟ بتضحك ع الغلبانة دي بكلمتين حلوين؟


رياض (يحاول يضحك، صوته مهزوز) :  إيه يا صفاء… داخلة عليّا كده ليه؟ دي حياتي وأنا حرّ فيها.


صفاء (تتقدم بخطوتين، حاجبها مرفوع) : حياتك؟ حياتك دي أنا اللي كاتباها، وأنا اللي باصرف عليك. من غيري إنت ولا حاجة.

(تضحك وهي بتبص له من فوق لتحت)

– يا نصاب، حتى في الحب نصاب.


رياض (يحاول يعلّي صوته عشان يخبي ارتباكه) :

 إنتِ فاهمة غلط، أنا بحاول أعمل مستقبل.


صفاء (تقترب أكثر، تبص له بحدة) :

 مستقبل؟ بالملايين اللي بتشفطها من الستات؟ ولا بالكلام اللي بتقوله لنور وهي فاكرة نفسها المنقذة؟


صمت رياض، وعيناه هربتا منها. إبتسامة قاسية ارتسمت على شفتيها، وبصوت كالسكين قالت :

 إوعى تنسى نفسك… إنت عندي لعبة. ولو قررت، أرميك برّه بيتي لكلاب الشارع، وما حدش هيسأل فيك.


أطفأ رياض سيجارته بعصبية، أنفاسه متقطعة. اقتربت صفاء وهمست ببطء :

 على قد ما بتمد إيدك، على قد ما هقصّها. فاهم؟


سكت المكان كله، ورجفة خفيفة هزّت رياض. صفاء استدارت ببرود، شعرها يتمايل على كتفيها، وتركت وراءها رائحة دخان وخمر ثقيلة. خرجت من الغرفة كأنها عاصفة برد.


جلس رياض وحيدًا، يدفن رأسه بين كفيه. وفي أعماقه، كان صوت نور يتردّد:

«إنت مين بجد؟»


تنهد تنهيدة طويلة، ثم تمتم بصوت خافت :

 أنا… شيطانها. وهي عمرها ما هتعرف تهرب.


---


عاد صوت خطواتها يقترب من جديد. الباب لم يُغلق تمامًا، وصفاء رجعت بخطوات أبطأ، لكن عينيها تشتعلان بقرار لا رجعة فيه.


صفاء (بصوت حاد لا يقبل نقاش) :

 بكره عايزاك تكون جاهز. هنكتب الكتاب.


رفع رياض رأسه بسرعة، عيناه متسعتان من الصدمة.


رياض (بلهجة متوترة) :

 إيه؟! إنتِ بتتكلمي جد ولا بتهزري؟


صفاء (تقف أمامه، ذراعاها متشابكتان) :

 جد. إنت عايش على حسابي، وبتلعب ع الحبلين. لأ.. من النهارده هتبقى رسمي، تحت عيني وبإسمي. يا تتجوزني، يا تخرج برّه، ومعاك الشارع يحتضنك.


رياض (يحاول يضحك ضحكة خايفة) :

صفاء، أنا.. أنا مش مستعد. أنا نفسي مش عارف أنا مين.


صفاء (تقترب منه وتضغط على كتفه) :

 هتعرف بكرة. الساعة 12 المأذون هيكون هنا. وهتشوف، أنا مش بلعب.


إبتسمت إبتسامة باردة، ثم استدارت ببطء، كأنها تركت الحكم النهائي يتردّد في الجدران.


---


في صباح اليوم التالي، جلست صفاء في صالة شقتها، ترتدي فستانًا أسوداً أنيقًا، وسيجارة مشتعلة بين أصابعها. على الطاولة أمامها فنجان قهوة، وأوراق بيضاء تنتظر توقيع المأذون.


دخل رياض بخطوات مترددة، عيناه غارقتان في الفراغ. حاول أن يتكلم، لكن الكلمات علقت في حلقه.


صفاء (بابتسامة ساخرة) :

 إتفضل يا عريس، المأذون جاي في السكة.


إبتسم ابتسامة باهتة، كأنها ابتسامة جنازة، وجلس في مقعده.


وعندما حضر المأذون وبدأت الأوراق تُكتب، كان رياض يسمع صوته من بعيد، كأنه لا يخصه. كل كلمة "عقد"، "إيجاب"، "قبول"، سقطت في أذنه كحجارة.


رفعت صفاء رأسها، نظرت له بابتسامة انتصار، وأمسكت بالقلم لتوقّع.

أما هو، فأغلق عينيه للحظة، وفي داخله صورة نور تعود في ومضة، صوتها الحنون يهمس :

 "إنت مين بجد؟"


فتح عينيه، ووقّع إسمه بخط مرتجف، وكأنه ختم على نفسه حكمًا بالإعدام.


---


في الوقت نفسه، كانت نور تغرق في كوابيس متكررة. نفس الحلم يرجع كل ليلة :

رياض وسط النار، يضحك ضحكة شيطانية، والعجوز واقفة تمنعها وتقول :

– دا مش رياض… دا واحد ما نعرفوش.


تصحى نور تصرخ، غرقانة عرق، تحاول تتصل بيه مئات المرات ومايردش. دموعها ما بتجفش، وحالتها النفسية بقت منهارة.


مريم شافت أمها بتنهار يوم بعد يوم، قالت بخوف :

 ماما… هو عمو رياض مش هييجي تاني؟


نور ضمّت إبنتها ودموعها نازلة، بس ماقدرتش تجاوب.


---


أما رياض، فقعد في بيت صفاء، يشوف خيانتها قدامه وهي بتكلم رجالة في التليفون. قلبه يولّع، بس مش قادر يعمل حاجة. يشرب سيجارة، يضغط على أسنانه، ويتمتم :

 نور… إنت السبب. لو وافقتِ كنا سافرنا وهربنا من صفاء. خوفك رجّعني للجحيم.


بعد أسبوعين، بقى رياض تايه بين ملاك وشيطان. نور الملاك اللي بترجعله في الأحلام، وصفاء الشيطان اللي مسيطرة على كل يومه.


وقف قدام المراية، نص وشه مظلم، ونصه منوّر بضوء خافت. بص لنفسه وقال :

 أنا مبقتش عارف أنا مين، ولا بقيت غير ظل شيطان.


ضرب المراية بقبضة إيده، الزجاج تناثر حوله. الدم سال من إيده بس هو ما اهتمش، بالعكس إبتسم ابتسامة باهتة كأن الألم الخارجي أهون من اللي جواه.


---


في المقابل، نور كانت قاعدة على سريرها، عينيها حُمر من البكا، الموبايل مرمي جنبها. سجلت في مذكرتها :


«بقالي أسبوعين بتصل بيك وانت سايبني في عذابي. أنا اللي كنت بخاف عليك، والنهاردة أنا اللي بضيع. إنت فين يا رياض؟

ولا يمكن أنا اللي كنت غلطانة من الأول.. أحببت شيطانا على هيئة رجل؟»


دموعها نزلت على الورقة، بللت الحروف.


---


في بيت صفاء، كانت هي قاعدة على الكنبة، كاس في إيدها، وضحكتها العالية بتملأ المكان وهي بتحكي في التليفون مع واحد تاني.


رياض سمعها، قلبه اتلوع، لكن ما تحركش. سحب سيجارة تانية، وصوته اتكسر وهو بيكلم نفسه :

 إزاي أنا اللي بلعب دور الجوز، وهي اللي عايشة حياتها كده؟


دخل عليها وقال بحدة:

 إنتِ بتكلمي مين؟


صفاء (بنظرة متعالية، نفخت دخان السيجارة في وشه) :

 إنت مالك؟! ولا ناسي إنك عايش هنا على حسابي؟


سكت، إيده اتقبضت وهو بيحاول يكتم غضبه. في لحظة حاس إنه مش قادر يثور، مش قادر يواجه.


رجع أوضته، قعد في الظلمة، دق السيجارة في الطفاية بعصبية، عينيه دمعت من القهر. همس وهو بيكلم نفسه :

 نور… إنت السبب. لو كنتِ وافقتِ من الأول، كنت خدتِيني من الجحيم ده. خوفك خلى حياتي تبقى زنزانة.

بس إستني، أنا هرجعلك، بس مش هترجعي زي ما إنتِ.


---


في اللحظة دي، نور كانت نايمة غصب عنها، والكابوس رجعلها تاني. رياض وسط النار، يضحك الضحكة اللي بتجلجل في ودانها. والعجوز واقفة، عينيها فيها تحذير أكبر من أي مرة قبل كده :

 قلتلك يا بنتي دا مش رياض! دا شيطان لابس وشه.


نور صحت مرعوبة، شهقت بقوة، قلبها هيقف من الخوف. مسكت الموبايل تاني تتصل بيه. الرنّة تمشي… وتمشي… لكن مفيش رد.


سقطت على الأرض تبكي وتقول :

 أنا بضيع… أنا بضيع يا رب.


---


بعدها بأيام، رجع يسهر في البارات. يشرب حتى يفقد وعيه، يغازل النساء، ويبيع لهن أوهام المشاريع. كل ليلة يخرج بجيب مليان فلوس سُرقت بالكلمة الحلوة، لكنه يعود بقلب فارغ، أعمق فراغ من أي وقت مضى.


وفي كل مرة يعود، يردد جملة واحدة:

– نور… إنت السبب. إنت اللي رميتيني هنا. لو ما خفتيش، لو كنتِ مشيت معايا، ماكنتش بقيت أسير صفاء.


---


وبينما هو يغرق أكثر في مستنقع صفاء، كانت نور تحاول التشبث بخيط أمل. تتصل به ليلًا ونهارًا، تسجّل له رسائل صوتية مليانة دموع :

 رياض… ردّ عليا بالله عليك. أنا مش عارفة أعيش من غيرك.


لكن الهاتف يظل صامتًا.


---


في ليلة، بعد انهيار جديد، كتبت في دفترها :


«أحببت نصابًا… يمكن دي الحقيقة اللي مش قادرة أواجهها. هو مش راجل، هو شيطان بيظهر لي في الحلم عشان يفكرني. يا رب، لو هو شر، إصرفه عني قبل ما يقتلني بروحه.»


---


في المقابل، رياض كان يقف قدام المرآة، وجهه نصفه غارق في الظلام، ونصفه الآخر منوّر بضوء خافت من لمبة مكسورة. ابتسم ابتسامة باهتة، وقال لنفسه :

 أنا دلوقتي مش رياض، أنا شبح. شيطان بيمشي على الأرض. ونور… هتدفع التمن.


كان الليل هادئاً، ونور قاعدة في أوضتها تبصّ للموبايل، قلبها مقبوض من أسبوعين عذاب. فجأة، رنّ الموبايل… إسمه ظهر قدامها.


نور (بصوت بيرتعش) :

 رياض؟


رياض (نبرته دافية، فيها شجن) :

 يا ملاكي.. وحشتيني موت. سامحيني إني بعدت، بس أنا كنت تايه، كنت محتاج أرجع لنفسي.


نور (دموعها نزلت) :

 أنا كنت هموت من القلق، كل يوم باكلمك وما بتردش.


رياض (بهدوء وابتسامة باينة في صوته) :

 خلاص، من النهارده مش هسيبك تاني. إنتِ دمي، إنتِ حياتي. أنا حتى ما باعرفش أتنفّس من غير صوتك.


قعدوا بالساعات يحكوا في كل حاجة، عن يومها، عن مريم، عن تفاصيل صغيرة. وهو كان يغازلها بكلمات تخليها تحس إنها أهم إنسانة في الدنيا :

 لما باسمع ضحكتك بحس إني مولود من جديد. نفسي أشوفك دلوقتي، ألمس إيدك، وأقولك قد إيه أنا مجنون بيك.


ونور… صدّقت، وانسابت أكتر في حبّه.


---


في صباح تاني، كان رياض قاعد في كافيه راقي. قدامه ست في أوائل الأربعينات، أنيقة وملامحها واثقة. هو بيحكي لها بحماس عن "مشروع استثمار" محتاج تمويل صغير، بس "الربح مضمون".


رياض (بأسلوب ساحر) :

 شوفي يا قمر، أنا ما بدورش على مستثمر، أنا بدوّر على شريكة نجاح. وإنتِ أذكى ست شفتها.


هي ضحكت بخجل، ومدّت له كارتها البنكي. رياض أخذ الكارت بابتسامة جانبية، وفي داخله ضحكة شيطانية :

(متمتم) – صفقة جديدة… وفلوس جديدة.


---


في الليل، رياض راجع البيت، لقى صفاء قاعدة على الكنبة، كاس في إيدها، سيجارة في التانية، وعينيها مرّكزة عليه.


صفاء (بابتسامة ساخرة) :

 عارف ليه اتجوزتك؟ مش علشان إنت راجل وسند، لأ… علشان أحتاج ورقة جواز أقدّمها لأهلي، وللمجتمع. ورقة تخليني أعيش براحتي، أخرج، أشرب، أتكلم مع اللي عايزاه من غير ما حد يوجّهلي كلمة.


رياض (مكتئب) :

 وإنتِ فاكرة ده جواز؟


صفاء (ترمي السيجارة في الطفاية) :

 آه. جواز على ورق. إنت تنصب على الستات، وأنا أنصب على الرجالة. إنت بتخوني، وأنا بخونك. إحنا متشابهين يا رياض.

(تقترب منه وتغمز)

 السرير ده يجمعنا بس لو عندي مزاج. غير كده، إنت في أوضتك وأنا في أوضتي.


رياض عضّ على شفايفه، غضبه متكتم.


صفاء (بصوت آمر) :

 بس فيه موضوع مهم، نور.. البنت دي لازم تخلص منها. أنا مش هقبل تفضل شاغلة بالك. ترجع لها، تسحرها بكلامك، وتشفط منها كل فلوسها. فاهم؟


رياض (يتنهّد، صوته متردّد):

 نور… دي مش زي الباقيين.


صفاء (بحِدّة) :

 مافيش "زي ومش زي". يا تاخذ كل اللي وراها وقدامها، يا أنا أخلص منك.


صمت رياض، عينيه زائغة. داخله صراع مرعب : الملاك اللي بيحبّه… والشيطان اللي بيقيّده.


---


نور صدّقت إنه اتغيّر. صدّقت إن رياض رجع ليها مختلف، أكثر حبًا وأكثر غرامًا. صار يكلّمها في كل تفاصيل حياته، يشاركها الصغيرة والكبيرة، يضحكها ويطبطب على قلبها. هي ما كانتش تعرف إن في الوقت اللي بيغازلها فيه بكلمات العشق، كان في إيده التانية بيرتب خطط ليمصّ فلوسها زي ما عمل مع غيرها.


صفاء كانت بتزوده بالأوامر :

 البنت دي لازم تخلص منها. ترجع لها، تسحرها بكلامك، وتشفط منها كل قرش. لو ما عملتش كده، أنا اللي هخلص منك.


وبين ضغط صفاء وحب نور وصراعه الداخلي، بقى رياض عايش في دوّامة. نصّه شيطان يغذّيه المال والخمر، ونصّه التاني بيتعلّق بنور كطوق نجاة. لكن السؤال كان يطارد نور كل ليلة في أحلامها :

«هل هو رياض اللي أحبّته فعلًا؟ ولا شيطان لابس وشه؟»


---


كان رياض يبتسم في وشّ نور عبر الموبايل، صوته كله حنية مزيفة :

 إنتِ حياتي يا نور، أنا عمري ما كنت من غيرك.


بينما على الناحية الثانية، صفاء قاعدة في أوضتها، بتشرب سيجارة، وضحكة شيطانية على شفايفها. عينيها بتلمع وهي بتقول لنفسها :

 يا نور… إنتِ مش عارفة إنك بتلعبي بالنار.


---


نور كتبت في دفترها قبل أن تنام :


«يمكن أكون غلطت، بس قلبي بيقول إنه اتغيّر. رياض مش هو اللي بيظهرلي في الكوابيس.. رياض اللي بيكلمني دلوقتي هو اللي باحلم بيه من زمان.»


لكن وهي بتغلق الدفتر وتطفئُ النور، رجع لها الحلم نفسه:

الدائرة… النار… رياض في قلبها… الضحكة المرعبة اللي بقت أقوى من أي مرة فاتت، والعجوز، بنفس النظرة الغامضة، كرّرت الجملة ببطء كأنها لعنة :

 ده مش رياض… ده شيطان لابس وشه.


صحَت نور مفزوعة، قلبها على وشك يوقف. مدّت إيدها للموبايل، وبإيد مرتجفة مسحت دموعها. لكن الموبايل ما كانش بيرن، كان مطفي.


وبعيدا… في بيت صفاء، كان رياض قاعد لوحده، إيده بتترعش وهو ماسك كاس. بصّ لنفسه في المراية، همس بصوت متكسّر :

 أنا مين؟


وبعد ثواني، إبتسم ابتسامة باردة وقال :

 يمكن أنا نصّاب.. ويمكن شيطان. بس الأكيد، إن نور مش هتنجو.


 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كاملةمن هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

 مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا







تعليقات

close