القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية احببت نصابا الفصل السابع والثامن بقلم نسرين بلعجيلي حصريه في مدونة قصر الروايات

رواية احببت نصابا الفصل السابع والثامن بقلم نسرين بلعجيلي حصريه في مدونة قصر الروايات



رواية احببت نصابا الفصل السابع والثامن بقلم نسرين بلعجيلي حصريه في مدونة قصر الروايات 



**أحببت نصابا** 


بقلم نسرين بلعجيلي 

Nisrine Bellaajili 


الحلقه 7


أيام قليلة كانت كافية لتتغيّر نور بالكامل. رياض عاد إليها وكأنه رجل جديد؛ صوته محمّل بالحب، كلماته تفيض شوقًا، حضوره في حياتها صار طاغيًا. لم يعد يترك لها وقتًا لتفكر أو حتى تلتقط أنفاسها. كل يوم يرسل لها رسائل طويلة، كل ليلة يتصل بها ليغني لها بكلماته، يضحكها، يطمئنها، يشاركها تفاصيل صغيرة لم تكن مهمة من قبل، لكنها بالنسبة إليها كانت تعني العالم كله.


شيئًا فشيئًا، غرقت نور في هذا البحر من العاطفة. قلبها صار يرفرف كلما سمعت إسمه، عقلها توقف عن طرح الأسئلة، وصارت كلمات صاحباتها مجرد ضجيج في الخلفية.


فيروز قالت لها ذات يوم بقلق :

 "يا نور، خلي بالك… الولد ده مش واضح. مش عايزاكِ تنجرحي."


سلمى أضافت :

 "إحنا حاسين إن في حاجة غلط. متخليش مشاعرك تعميكِ."


لكن نور إبتسمت إبتسامة هادئة، وأجابت بصوت مرتجف من الحنين :

 "إنتوا مش فاهمين، رياض غير أي حد. هو الوحيد اللي حاسس بيا."


فرح حاولت تمسك إيدها وتشدها من الوهم :

 "بس يا نور، إنتِ اتغيرتِ، بطلتِ تخرجي معانا، ما بقتيش تردي على مكالماتنا، حياتك كلها بقت هو!"


نور سحبت يدها برفق، وابتسمت إبتسامة حزينة :

 "يمكن عندكم حق، بس أنا مش قادرة أبعد عنه. هو دنيتي دلوقتي."


ياسمين، التي عادة ما تكون صامتة، انفجرت هذه المرة :

 "لو فضلتِ كده، هتضيعي نفسك، الحب مش إنك تذوبي وتنسي كل الناس حواليكِ."


لكن نور لم تعد تستمع. كانت تسمع أصواتهن كأنها تأتي من بعيد، من عالم آخر لم تعد تنتمي إليه. في تلك اللحظة، إختارت أن تدير ظهرها للشلة التي طالما ساندتها، وتغرق أكثر في حب رجل لم تدرك بعد أنه يقودها نحو الهاوية.


وبينما كانت صديقاتها ينظرن إليها بعيون دامعة، نور مشت بخطوات مترددة لكنها واثقة في اتجاه واحد فقط : _رياض..


منذ أن ابتعدت نور عن الشلة، أصبحت حياتها تدور كلها في فلك رياض. لم تعد تخرج مع فيروز أو سلمى أو فرح أو ياسمين، ولم تعد تشاركهن أسرارها أو مخاوفها. هاتفها لم يعد يرن إلا بإسمه، ورسائلها لم يعد يملأها سوى صوته.


رياض كان ذكيًا في استغلال الفرصة؛ كل مرة يلاحظ بعدها عن صديقاتها، يضاعف جرعة حنانه وكلماته المعسولة.

– "أنا عمري ما شُفت حد زيك يا نور، إنتِ معجزة."

– "من غيرك أنا ما أساويش حاجة."

– "أنا وإنتِ ضد العالم كله."


نور صدّقت كل كلمة. كانت تكتب في مذكرتها :

«أنا ورياض صرنا واحد. لا أحتاج أحدًا بعده. حتى صديقاتي لا يفهمنني كما يفعل هو.»


لكن الحقيقة كانت مختلفة. في الوقت الذي يغمرها بكلمات الحب، كان رياض يجلس في مقهى آخر مع امرأة جديدة، يرسم لها نفس الحلم، نفس الوعود، يبيع لها وهم المستقبل، وفي النهاية يمد يده ليحصل على ما يريد.


صفاء كانت تراقبه عن بُعد، عينيها لا تفوّت شيئًا. ذات ليلة، جلست مقابله وقالت بضحكة باردة :

 "أنا وإنت متفقين يا رياض. أنا محتاجة ورقة الجواز قدام أهلي، وأنت محتاج ست تسندك. لكن بيني وبينك، نور دي لازم تخلص منها. هات اللي عندها، 


رياض صمت للحظة، قلبه يرتجف بين شيئين: حبه المزيف الذي بدأ يصدّقه مع نور، وقيده الحقيقي الذي يمسك بخناقه مع صفاء.


وبينما هو يعيش هذا الصراع، نور كانت تغرق أكثر، تبتعد عن الجميع، وتكتب في رسائلها له :

 "أنا ملكك يا رياض، ملكك وبس."


في الليل، رياض رجع البيت منهك بعد سهرة طويلة. لقى صفاء قاعدة في الصالة، سيجارة في إيدها، وكاس في التانية، وابتسامة غامضة على وشها. رفع عينه لها وقال بصوت متعب :

 "إنتِ ليه مش سايباني في حالي يا صفاء؟"


ضحكت ضحكة قصيرة، ورمت نظرة كلها تحدٍ :

 "عُمري ما هسيبك يا رياض. إنت مربوط بيا للأبد."


إقترب منها، صوته مبحوح وفيه محاولة للفهم :

 "طب قوليلي، إنتِ بتحبيني؟"


إنفجرت في ضحكة سخرية، وهزت راسها باستهزاء :

 "أحبك؟! قولي إيه اللي فيك علشان أحبك؟ عندك إيه أصلاً؟ إنت واحد فاشل، ماشي في الدنيا بالنصب والكلام الفاضي. أنا مش عارفة الضحايا بتوعك بيحبوك ليه."


تقدمت خطوتين ناحيته، وصوتها انخفض لكنه كان أكثر قسوة :

 "يمكن علشان إنت بتمثّل عليهم، بتلعب دور العاشق، البطل، المنقذ. بس أنا الوحيدة اللي شايفة حقيقتك، أنا الوحيدة اللي عارفة مين رياض بجد. وشك الحقيقي، القناع اللي عمرك ما تقدر تخلعه قدامي."


كلماتها وقعت عليه زي السهام. حسّ بجرح غائر، لكن ما قدرش يرد. وقف قدامها صامت، عيناه غارقتان في مرارة ما بين حب نور اللي بيخليه يحس بإنه إنسان، وصفاء اللي بتفكره دايمًا إنه مجرد نصّاب بلا قيمة.


هنا إنفجر رياض. صرخ، ورمى الكأس اللي على الطاولة فتكسّر والزجاج تناثر على الأرض :

 "كفاية يا صفاء! أنا مش عبد عندك! إنتِ فاكرة إنك ماسكة الدنيا كلها من رقبتي؟ لأ، أنا اللي اخترت أبقى هنا، وأي وقت أقدر أسيبك وأمشي"


إقترب منها بعصبية، عيناه حمراء من الغضب :

 "إنتِ بتقولي إني فاشل؟! يمكن، بس على الأقل أنا لسه عندي اللي يقدر يحبني بجد! نور بتحبني، شايفة فيا راجل، مش زيك إنتِ اللي شايفة شيطان!"


صفاء ضحكت بسخرية باردة، ولمعت عينيها :

 "آه يا رياض، إنفجر، أصرخ، إكسر اللي حواليك. بس في الآخر، هترجع لي. لأنك مهما عملت، إنت ما تعرفش تعيش من غيري."


بص لها رياض بعيون كلها كره، قلبه بيغلي، وصوته خرج متقطع بين الغضب والانكسار :

 "إوعي تفتكري إني هافضل تحت رحمتك طول عمري.. في يوم هتشوفي رياض اللي عمرك ما عرفتيه."


    وقف رياض قدامها، صوته مبحوح من كثر الصراخ، والزجاج المكسور حوالينه. عروقه نافرة في وشه، وإيده بتترعش. صفاء، بدل ما تتأثر، ضحكت ضحكة باردة زي السكينة وهي بتتغرس في القلب.


قالت وهي تنفث دخان السيجارة في وشه :

 "إنت فاكر نفسك هتهددني يا رياض؟ لأ يا حبيبي، اللي ماسك اللعبة أنا. إنت مش قادر تمشي من هنا خطوة."


قربت منه أكثر، بصوت مليان ثقة وقسوة :

 "هترجعلي كل فلوس اللي عليك، فاهم؟ الشيكات لسه في جيبي. أقدر أوديك السجن بكلمة. ولو فكرت بس ترفع صوتك عليّ، أنا عندي صبيان ممكن أبعثهملك في لحظة، يضربوك لحد ما يعدموك من الدنيا."


عيون رياض اتسعت من القهر، وصوت نفسه بقى متقطع. حاول يرد، بس هي ما ادتلوش فرصة.


– "أنا أقدر أفضحك في ثانية. عندي كل التسجيلات، كل الضحايا اللي ضحكت عليهم وبكيتهم. كلمة مني تخليهم ييجوا ويمسحوا بيك الأرض."


إتكأت على الطاولة، رفعت كاسها، وكأنها بتحتفل بالهزيمة اللي غرّستهاله :

 "حتى شركتك اللي صدعتنا بيها غرقت في الديون وقفلتها زي الكرتونة الفاضية. ماعرفتش تعمل حاجة بعدها غير إنك تعيش عالة على غيرك. إنت دلوقتي هنا تحت رجلي. عارف ليه؟ علشان محدش في الدنيا دي يقدر يستحملك غيري."


سكتت لحظة، رفعت حاجبها بابتسامة ساخرة، وقالت :

 "إنت بتقول نور بتحبك؟ خلّيها تنفعك. لو عرفت حقيقة رياض اللي أنا عارفاه، هتجري منك زي باقي الناس. إنت ليا، غصب عنك. لعبة في إيدي، وأنا الوحيدة اللي عارفة إزاي أدوّرك."


كلماتها كانت زي الطعنات. كل جملة بتنزل على قلب رياض زي حجر ثقيل بيغرقه أكتر. وقف قدامها، جسمه متشنج، بس عينه لمعت بدموع قهر حاول يخفيها. تم رمى السيجارة اللي في إيده على الأرض وداس عليها بعصبية، وبصّ لها وهو مكسور :

 "خلاص يا صفاء، كفاية. أنا تعبت… تعبت من كل حاجة."


قعد على الكنبة، حط راسه بين إيديه، وصوته خرج متقطع :

– "أنا كنت فاكر إني قوي، فاكر إني أقدر أتحكم في أي واحدة تقابلني. بس إنتِ كسرتيني، خليتيني أضيع، حتى نفسي مش لاقيها."


دموعه نزلت من غير ما يحس، أول مرة يعيط قدامها. بس صفاء ما رقّتش، بالعكس، إبتسمت إبتسامة انتصار، وقعدت قدامه وهي تهز الكاس في يدها :

 "إنت إنهرت خلاص، أهو رياض النصاب اللي كان فاكر نفسه أسد، بقى قطة مبلولة تحت رجلي."


رفع عينيه يبصلها، صوته خافت :

 "ليه يا صفاء؟ إيه اللي مخليكِ متمسكة بيا كده، وإنتِ عارفة إني مش هتغيّر؟"


ضحكت ضحكة قصيرة، وقالت :

 "علشان إنت أضعف من إني أسيبك. إنت لعبتي، وأنا بحب أشوفك بتتقلب بين إيدي زي العروسة الخشب. عمرك ما هتهرب، ولا هتقوم."


في اللحظة دي، رياض انهار أكتر، ساب نفسه يغرق في الهزيمة، وكأن روحه انسحبت منه. حس لأول مرة إنه مش نصاب ولا راجل، حس إنه مجرد ظل، مكسور وتحت رحمة شيطانة ماسكة كل مفاتيحه.


بعد انهيار رياض التام أمام صفاء، خرج من شقتها وهو تايه، خطواته ثقيلة وقلبه مثقل بالقهر. ولأول مرة من مدة طويلة، مسك موبايله وكتب لنور رسالة :

 "محتاج أشوفك."


نور ردّت بسرعة، قلبها بيرقص من الفرح :

 "أنا كمان يا رياض، وحشتني."


إلتقوا في كافيه صغير على أطراف المدينة. كانت عيونها بتلمع، وابتسامتها مليانة شوق. جلس قدامها، حاول يخبي صراعه الداخلي، لكن بمجرد ما شافها، كل ضعفه اتبدّل لهدوء مؤقت.


نور (بحماس) :

 "أنا فكرت يا رياض، خلينا نسيب كل حاجة ونتجوز. مش عايزة أخسر وقت تاني."


كلمتها نزلت عليه مثل صاعقة، بس المرة دي مختلفة. حس نفسه بيرجع يتنفس. رفع عينه لها وقال بصوت مهزوز :

 "إنتِ عارفة إني مش في أفضل ظروفي دلوقتي، بس لو إنتِ موافقة، نتجوز بعد أسبوع."


نور شهقت، دموع الفرح غرقت عينيها :

 "بجد يا رياض؟ بعد أسبوع؟"


إبتسم إبتسامة ضعيفة :

 "آه، بعد أسبوع تبقي مراتي."


خرجوا مع بعض من الكافيه، وإيدها في إيده. ومن اللحظة دي، نور غاصت في دوامة فرح مجنونة. بدأت تشتري فستان الفرح، وتختار القماش الأبيض اللي حلمت بيه من زمان. اشترت قمصان نوم حرير، لوازم عروس، كل قطعة كانت تمسكها وتوريها لرياض عبر الصور أو الفيديو كول.


نور (بابتسامة طفلة) :

 "بص يا رياض، ده فستاني! مش مصدقة إني أخيرًا هبقى عروستك."


هو كان يسمع صوتها، يحاول أن يشاركها فرحتها، لكن قلبه يتلوّى من جواه. في لحظة معينة، وهي بتضحك وبتقوله إنها هتكتب إسمه على طرحتها، حس بطعنة في صدره. ضميره صاح فيه : إنت بتضحك عليها، هي بتحلم، وإنت بتبيع لها وهم.


في مرة، وهو معاها، شاف نور واقفة قدام المراية، بتقيس واحد من فساتين البيت الجديدة. ضحكت بخجل وقالت :

 "إنت عارف يا رياض، عمري ما تخيلت نفسي عروسة غير معاك."


إبتسم، لكنه في أعماقه كان يئن.


وفي لحظة ثانية، مريم جريت عليه وهي ماسكة لعبة صغيرة، وقالت ببراءة:

 "بابا… بص! عملت بيت لعرائس."


الكلمة وقفت في حلقه. نور ضحكت والدموع في عينها، حضنت بنتها وقالت :

 "شايف؟ حتى مريم بقت شايفاك أبوها."


هو ركع على ركبته، حضن الطفلة وهو بيكتم دموعه، وقال بصوت مبحوح :

 "مريم، يا ملاك."


لكن لما رفع عينه، شاف نور بتبص عليه بحب عظيم. وقتها، قلبه اتعصر. حس إن ذنبه أكبر من إنه يتغفر. إزاي هي وطفلتها شايفين فيه أمان، وهو جواه مجرد نصاب؟


في تلك الليلة غفت نور، وما إن أغمضت عينيها حتى وجدت نفسها وسط نفس الدائرة من النار، ألسنتها ترتفع وتلتف حولها كأفاعٍ حمراء. الدخان خانق، والهواء مليء بصرخات غير مفهومة.


العجوز ظهرت من جديد، ملامحها أكثر صرامة، وصوتها كالسوط يجلد سمعها :

 "خلي بالك يا بنتي، النار دي مش ليكِ، إبعدي قبل ما تتحرقي."


نور التفتت تبحث عن رياض، فإذا به ملقى على الأرض، يمد يديه وكأنه يستغيث. فوقه امرأة ضئيلة الجسد، شعرها الكيرلي مبعثر حول وجهها، بيرسينغ يلمع في أنفها مع وهج اللهب، وعيناها سوداوان كأنهما حفرتان من غضب. كانت تطبق يديها على رقبته بكل قوة، وجهها يقترب من وجهه وهي تضغط أكثر فأكثر.


صوت أنفاس رياض بدأ يختفي، جسده يتراخى، وعيناه تنقلبان في محجريهما. صرخت نور بكل ما فيها:

– "لاااااا! رياض!"


النار اشتعلت أكثر، أحاطت بالجميع، والعجوز رفعت يدها محذرة :

 "إبعدي يا بنتي قبل ما تتحرقي!"


عندها إنفجر كل شيء…


إستيقظت نور فزعة، شهقتها عالية، قلبها يدق بقوة، والعرق يغرق جبينها. مدت يدها المرتعشة للهاتف واتصلت به وهي تبكي :

 "رياض! رياض… أنا شفت كابوس مرعب!"


صوت رياض جاء متقطع من الطرف الآخر، كأن صدره ضاق فجأة:

 "خير يا نور؟ مالك بتعيطي ليه؟"


نور بصوت بيرتعش ودموعها بتغرق خدودها :

 "شُفتك في الحلم،، كنت واقع وسط النار، وفيه واحدة جسمها صغير، شعرها منكوش، عينيها سودا كأنها بئر، كانت بتخنقك لحد ما نفسك انقطع، وأنا ما عرفتش أنقذك. حسيت إني بضيع معاك."


صمت رياض للحظة، قلبه انقبض، عينه اتسعت كأن حد غرس خنجرا في صدره. الوصف ضربه زي الصاعقة، نفس الملامح، نفس التفاصيل اللي عايشها كل يوم. لكن بسرعة حاول أن يخفي إرتباكه، وعدّل نبرته :

 "يا حبيبتي، دا مجرد كابوس. دماغك مرهقة من التفكير. محدش هيقدر يبعدني عنك، ولا يمسّني وأنا معاك."


نور بتصرخ وهي مش قادرة تهدى :

 "لأ يا رياض! حسيت إنها حقيقة… حسيت إن النار حوالينا وأنا مش قادرة أخرجك منها."


رياض شدّ نفسه وقال لها بصوت فيه دفء مصطنع :

 "بصيلي، أنا بخير. إسمعيني، إنتِ بالنسبالي الروح اللي بتديني حياة. ما تسيبيش الأحلام دي تلعب في دماغك. أنا معاك وهتفضلي معايا، ومحدش في الدنيا يقدر يفرقنا."


نور مسحت دموعها وهي تهمس:

 "أنا بس خايفة أخسرك، خايفة أصحى ألاقيك مش موجود."


 رياض ابتسم ابتسامة باهتة، وهو يضغط على صدره من الوجع اللي جوّاه :

 "إنتِ عمرك ما هتخسريني، ولو في يوم الدنيا ولّعت حوالينا، أنا هفضل ماسك إيدك. صدقيني يا نور، إنتِ الأمان اللي بدور عليه."


لكن في داخله، كان صوته التاني يصرخ :

كيف عرفت؟ إزاي وصفتها كأنها شايفاها؟


كان رياض قاعد في كافيه هادي على أطراف المدينة، سيجارة في إيده، وعينيه شارده في الفراغ. قدامه جلس توفيق، صاحبه القديم وشريكه في بعض الصفقات المشبوهة. رياض حكاله عن الحلم اللي شافته نور بالتفاصيل، وعن الوصف اللي هزّه من جوّه.


رياض (بصوت مبحوح) :

 "يا توفيق، البنت دي مش غبية. عندها حس عالي، حسيت إنها شايفة اللي بيحصل معايا كأنها عايشة وسطنا. أنا… أنا ما بقيتش عارف نفسي. كل يوم بضيع أكتر. بس هي… هي النور الوحيد اللي منور لي حياتي في العتمة. حسيت إنها الحاجة الصح في حياتي."


توفيق ضرب كفّ بكف وضحك ضحكة قصيرة، فيها سخرية ممزوجة بالتحذير :

 "صح؟ يا عم فوق. إنت ناسي إنت مين؟ إنت اللي ماشي من لعبة للثانية. ودي مش غير لعبة جديدة. إوعى تخلي قلبك يضحك عليك."


رياض اتنهد، حط إيده على راسه وقال بحرقة :

 "أنا تعبت يا توفيق. نور مختلفة، مش زي الباقيين. دي بتحبني بصدق. لو حصل لها حاجة، أنا هموت."


توفيق مال لقدامه، عينيه ضاقت بحدة:

– "اسمعني كويس، لو عايز تعيش، لازم تخلص اللعبة بسرعة. خَلّيها تعمل لك توكيل رسمي أو تتنازل عن كل حاجة. كده تبقى مأمن نفسك وتطلع منها كسبان. غير كده، صفاء مش هتسكت. وممكن تأذيها قبل ما تأذيك."


رياض شدّ على صدره، صوته متهزّ :

 "بس يا توفيق… دي نور. أنا مش قادر أتخيل إنها تتأذى بسببي."


توفيق ضرب الطاولة بإيده بقوة، صوته مليان حدة :

 "حياتك أو حياتها، يا رياض! ركّز كويس. الدنيا ما بتديش إثنين. يا تنجو إنت، يا تضيعوا سوا."


رياض سكت، نظرته اتعلقت في نقطة بعيدة، جواه حرب ما بين قلبه اللي بيتعلق بنور وعقله اللي مربوط بسلاسل صفاء وأوامر توفيق.


    إقترب اليوم المنتظر. لم يتبقَ سوى ساعات على كتب الكتاب، المقرر غدًا. نور كانت ترفرف كفراشة في ربيعها الأول، قلبها يغني، وروحها لا تكاد تصدق أن كل هذا يحدث لها. كانت ترتّب البيت بنفسها، تعلق الزينة البسيطة التي اشترتها، وتبتسم كلما وقعت عيناها على فستانها الأبيض المعلّق على الحائط.


رياض جاء إلى بيتها عصرًا، بوجهٍ يحمل خليطًا من ابتسامة مصطنعة وملامح شاردة. فتحت له الباب وهي تكاد تطير من السعادة. ركضت مريم إلى حضنه كأنها عرفت أن اليوم مختلف، ثم أخذت بيده إلى غرفتها، لتُريه فستانها الصغير الذي اختارته ليوم كتب الكتاب.


ضحك رياض بخفة وقال لها :

 "إيه يا عروسة، هتخطفي الأضواء من ماما كده."


نور نظرت له بخجل، وسألها فجأة :

 "عزمتِ صحابك يا نور؟"


إرتبكت قليلًا، ثم أجابت بصوت رقيق :

 "لأ… أنا مش عايزة دوشة ولا ناس كتير. يكفيني أكتب الكتاب معاك ونحتفل سوا، أنا وإنت ومريم. ده يومنا إحنا بس."


إبتسم رياض إبتسامة شاحبة، وكأنه مرتاح أن الأمر سيبقى محدودًا. لكن فجأة، رنّ هاتفه. وجهه تغيّر في لحظة، قلب لونه كأنه نزف من داخله. ضغط على زر "الرد"، وصوته تغير.


إلتفت نحو نور بابتسامة باهتة وقال :

 "ممكن تعمليلي قهوة يا حبيبتي؟"


أومأت بحب وذهبت إلى المطبخ، قلبها سعيد أنها ستدلله بكوب قهوة في يومهم الكبير.


لكنه في تلك اللحظة، إتجه إلى البلكونة في الصالة. وقف هناك، يتحدث بصوت خافت، كأنه يهمس للهواء.


نور، التي عادت لتسأله شيئًا، وقفت عند الباب دون أن تقصد، وسمعت الجملة الأولى التي هزّت عالمها :

 "ما تفضليش تتصلي كثير علشان ما تحسش ويروح علينا كل اللي إحنا بقالنا فترة بنخطط له."


تجمدت الدمعة في عينيها. الهواء انقطع عنها. قلبها دق بعنف كأن أحدهم يطعنها بسكين بارد.


رياض أكمل بصوت متوتر :

 "خلاص، هاعمل اللي قلتِ عليه. بكرة هاخذها عند المحامي، وأخليها تمضي. مش هتاخذ بالها، ورقة التنازل هتكون مع العقود. كل حاجة هتخلص."


نور وضعت يدها على فمها حتى لا تخرج شهقة، جسدها كله يرتجف.


ثم سمعته يسكت لحظة، قبل أن يضيف ببرود :

 "أيوه، أوكي. أنا مش هتجوزها رسمي. هخلي توفيق يجيب مأذون على مزاجنا، أقضي معاها يومين، وبعدها آخذ كل حاجة."


سكت لحظة أخرى، ثم خرجت منه الجملة التي كسرت ظهرها :

 "يا صفاء إنتِ بس اللي مراتي. هي مش هتجوزها ما تقلقيش."


نور أحسّت أن جدران البيت تدور حولها. قدماها لم تعودا تحملانها، ودموعها انفجرت دون أن تشعر.


رياض أكمل، وكأنه يسكب السم في أذنها :

 "قرض إيه بس؟ هي عمرها ما هتوافق. خلاص، أنا هتصرف."


ثم صمت لحظات، وفتح مكالمة أخرى، وصوته تغيّر كليًا. أصبح مليئًا بالدفء المصطنع :

 "بحبك… بحبك… بحبك. بصي، الليلة دي هقضيها في حضنك يا جميل… يا عسل."


نور شعرت أن قلبها يُسحق تحت أقدام الحقيقة. كل كلمة سقطت على روحها كحجر يهوي من جبل. رأت أحلامها تتكسر، فستانها الأبيض يتحول في عينيها إلى كفن، وضحكة مريم البريئة تذبحها من الداخل.


جلست على الأرض، ظهرها للحائط، عيناها تنهمر منها دموع لا تنتهي. كل ما سمعتْه لم يكن مجرد خيانة، كان اغتيالًا لروحها.


ترددت في أذنها كلمات العجوز في الحلم :

"إبعدي قبل ما تتحرقي."


لكن النار كانت قد وصلت بالفعل، تحرق قلبها وهي حيّة.


نور لم تصرخ. لم تواجه. جلست فقط في صمت، منهارة كطفلة تُركت وحيدة في عاصفة. كانت تسمع صدى صوته يضحك في الهاتف ويقسم بالحب، بينما هي تموت في اللحظة نفسها.


 «أحبت نصابًا… وأدركت متأخرة أن النصاب لا يعرف الحب، بل يعرف فقط كيف يسرق القلوب كما يسرق الأموال.»


وهكذا… إنتهى يومها الذي حلمت أن يكون أجمل أيام عمرها، ليصبح بداية الجحيم الحقيقي.


**أحببت نصابا** 


بقلم نسرين بلعجيلي 

Nisrine Bellaajili 


الحلقه 8 


رجفت ركبتاها وهي تسمع صوته من البلكونة، كأن كل كلمة خنجر يغوص أعمق في صدرها. دموعها سالت بلا وعي، لكنها بلعت شهقتها، ومسحت وجهها سريعًا بيد مرتعشة. التفتت بهدوء، وسارت إلى المطبخ كأنها لم تسمع شيئًا.


وقفت أمام الغلاية، يداها ترتعشان وهي تملأ الفنجان. كانت تشعر أن كل حركة تثقل عليها أطنانًا، أن القهوة تغلي ببطء شديد كأنها تُعذبها. همست لنفسها :

 "إقوي يا نور.. خليكِ قوية.. ما تظهريش اللي جواكِ."


أخذت الفنجان على صينية صغيرة، وتقدمت بخطوات ثابتة رغم أن الأرض كانت تهتز تحتها. دخلت الصالة، وجدته جالسًا على الكنبة، هاتفه بجانبه، سيجارة بين أصابعه، وعيناه شاردتان في اللاشيء.


إبتسمت إبتسامة باهتة، وضعت القهوة أمامه :

 "إتفضل يا رياض."


رفع عينيه إليها، تفحص ملامحها، لكنها كانت قد ارتدت قناعًا من هدوء مصطنع. جلست مقابله، وضمت يديها في حجرها كي تخفي ارتعاشهما.


 إرتشف رشفة من القهوة وقال بخفّة :

 "إيه يا حبيبتي، شكلك تعبانة شوية."


أجابت بصوت هادئ، مبحوح لكنه متماسك :

 "يمكن… يمكن من كثر التفكير. بس أنا كويسة طول ما إنت معايا."


أطرق للحظة، ثم ابتسم لها ابتسامة دافئة. لم يكن يعرف أن تلك الكلمات خرجت من قلب يتفتت. هي، من ناحيتها، جلست تحدّق في ملامحه.. تتساءل بداخلها :

إزاي قِدر يقول "أنا معاك" وهو لسه من دقائق كان بيبيعني على التليفون؟


لكنها لم تُظهر شيئًا. رفعت فنجانها، شربت رشفة صغيرة، وابتسمت ابتسامة هادئة جدًا، إبتسامة كانت أقرب لابتسامة الموت.

جلس رياض على الكنبة، سيجارته تشتعل ببطء بين أصابعه، عيونه فيها بريق غريب، بريق طمع أكثر من أي شيء آخر.


قال بصوت واثق :

 "بصي يا نور، أنا فكرت. علشان مشروعنا يكبر بسرعة ويقف على رجليه، لازم ناخذ قرض محترم من البنك. مش مبلغ صغير، لأ، مبلغ كبير يخلينا نتحرك بحرية. ندمج السيولة اللي عندنا بالقرض، وساعتها المشروع يبقى حاجة كبيرة، حاجة تفتح بيوت."


نور ظلت صامتة، عينيها مثبتة في وجهه. كانت تراه يتكلم بحماس ممثل بارع، يلوّن كلماته بالثقة والوعود، وكأن مستقبلهما المشرق يتوقف على هذا القرض.


مال بجسده للأمام، صوته أكثر دفئًا :

 "أنا اللي هاتصرف في الميزانية كلها. عندي خبرة، باعرف أحط القرش في مكانه الصح. إنتِ بس وافقي والباقي عليا."


نور رفعت حاجبها بخفة، إبتسمت إبتسامة باهتة وهي تراقبه. بداخلها كانت تصرخ : شايفاك… شايفة الشيطان اللي جواك، شايفة قناعك المرسوم بدقة.


لكنها تماسكت. أخذت نفسًا عميقًا وقالت بهدوء :

 "عارف يا رياض، أنا فعلاً أعرف مدير بنك. كان صاحب جوزي الله يرحمه. ممكن يساعدنا في الإجراءات، يسهل علينا الموضوع."


لمعت عيناه، وقف بسرعة، صوته متحمس :

 "الله! طب إيه اللي مستنينا؟ لازم نروح له فورًا. مانضيعش وقت. كل يوم يفرق. إحنا قدامنا فرصة ذهبية"


نور نظرت له نظرة طويلة، كأنها تحاول أن تخترق روحه. كانت ترى كيف يضغط عليها بالكلام، كيف يلف الحبال حول عنقها بكلماته المعسولة. في داخلها، رغبت أن تمد يدها وتخنقه، أن تسكت هذا الصوت المليء بالخداع.


لكنها أطبقت يديها على فخذيها بقوة، حتى كادت أظافرها تغرز في جلدها، وقالت لنفسها بصوت داخلي :

"لازم أبقى أقوى منه، لازم أكون أذكى. لو ضعفت دلوقتي، هو اللي هينتصر."


إبتسمت له إبتسامة رقيقة، وقالت :

 "تمام يا رياض، نشوفه بكرة."


انفجر بابتسامة انتصار، مد يده ليأخذ يدها، وضغط عليها بقوة وهو يقول :

 "إنتِ هتشوفي… مشروعنا ده هيغيّر حياتنا كلها."


لكن نور، في داخلها، لم ترَ سوى الحقيقة : لم يكن مشروعًا، بل كان فخًا، وحبها القديم صار هو الشبكة اللي يحاول يصطادها بيها.


جلس رياض ممسكًا يدها، يحدق فيها باندفاعة اعتادها؛ ثم شعر فجأة بشيءٍ غريبٍ يختلج صدره. نظراتها لم تعد كما عرفها. لم تحمل الحماس الذي كان ينعش قلبه، ولا اللهفة التي كانت تطير به. كانت عيناها ساكنتين، باردتين؛ كأنّها تخفي في أعماقها بحرًا لا يعرفه أحد.


إبتسم ابتسامة مصطنعة، لكن داخله اطلع له اهتزاز. همس في نفسه بعجبٍ مكبوت : «معقول… سمعتني؟»


خفق قلبه بسرعة، وقطرت منه قطرات عرق بارد على جبينه. هزّ رأسه سريعًا محاولًا طرد الفكرة، وقال بصوتٍ داخليٍّ مصمم : «لا… لا مستحيل. لو كانت سمعتني ما كانتش هتقعد قدامي بالهدوء ده. نور غبية وعصبية، لو عرفت حاجة، كانت إنفجرت، صرخت، مسكت فيا من هدومي، مش كانت تقعد تبتسم وتقول "تمام يا رياض".»


ضحك ضحكة قصيرة، محاولًا أن يقنع نفسه، ومع ذلك بقيت عيناه تترصّدها بغيظٍ وحذر. صار كل لفظ منها سببًا للريبة، كل ابتسامة بداخله مرآة تكشف وجهه الحقيقي، وكل حركةٍ منها باتت تحت المجهر.


ونور كانت جالسة أمامه، تحتمي بمظهر العادية، لكن قلبها كان ينزف صامتًا. هي رأت فيه الممثل البارع، وحفظت تقاسيم التمثيل جيدًا، أما لسانها فظل صامتًا، بينما عقلها ينقش خطةً جديدةً بعناية: «أيوه يا رياض، العب لعبتك. بس أنا كمان عندي دور، ومش هسيبك تخلّص عليا زي باقي الضحايا.»


كان رياض ما زال ممسكًا بيدها، صوته يقطر إصرارًا لا يقبل نقاشًا.

قال وهو يبتسم ابتسامة ظاهرها طمأنينة وباطنها ضغط :

 "بصي يا نور، أنا مش عايز الموضوع يتأخر. إتصلي بمدير البنك دلوقتي، خلينا نحدد معاه ميعاد، ولو نقدر نقابله النهاردة يبقى أحسن. كل يوم بيعدّي بيفرّق في المشروع."


نور شعرت كأن الجدران تضيق عليها. قلبها متلخبط، عقلها يصرخ : هو بيحاصرني، مش مديّني حتى نفس ألتقطه.

لكنها تماسكت، إرتدت نفس الإبتسامة الباهتة، وأومأت برأسها بهدوء :

 "تمام يا رياض، هكلمه."


أخرجت هاتفها، وضغطت الرقم بيد مرتعشة، بينما هو يراقبها بعينيه كالصقر. لحظة الاتصال كانت ثقيلة، وكأن الزمن يتباطأ.

لكن من حسن حظها، جاءها صوت مدير البنك سريعًا، وبعد دقائق من الكلام البسيط، وافق على مقابلتهم بعد ساعة واحدة.


أغلقت الخط، رفعت عينيها نحو رياض، قالت بهدوء متزن :

 "إدانا ميعاد بعد ساعة."


تهلّل وجهه بابتسامة انتصار، كأنه صاد سمكة وقعت في شباكه وقال :

 "برافو! كده الصح. مش عايزين نضيّع أي فرصة."


أما نور، فجلست صامتة، تخفي ارتجاف قلبها. داخليًا كانت تتمتم : يا رب.. يقيني فيك كبير. إنت مش هتسيبني. لازم أفضل أمثل عليه لآخر لحظة، علشان أعرف أنقذ نفسي وبنتي من غير ما يشك.


وضمت كفيها في حجرها، وعينيها تلمعان بمزيج من الخوف والإيمان، ممثلة دور العاشقة الواثقة، بينما بداخلها نار تشتعل وتخطط للنجاة.

خرج رياض من مكانه، وقف يتحرّك في الصالة كأنه ملك الموقف. سيجارته في يده وصوته مليء بالثقة :

 "أنا هتكلم معاه في كل التفاصيل. إنتِ بس أسكتي، خلي الكلام كله عليا. مش عايز أي حاجة تبوّظ الصورة اللي أنا عاملها."


نور أومأت برأسها، إبتسمت ابتسامة صغيرة، وكأنها موافقة، بينما في داخلها كانت تردد : هو فاكرني دمية في إيده، فاكرني مش شايفة القناع اللي لابسه.


جلس بجانبها من جديد، أمسك يدها وضغط عليها بقوة :

 "إنتِ عارفة يا نور، المشروع ده مش ليا لوحدي، ده لينا. أنا عايز أعملك ملكة، أخلي الناس كلها تبصلك وتقول : دي مرات رياض اللي عملت الإمبراطورية دي."


نور اكتفت بالصمت، عينيها ثابتة في وجهه، لكنها لم ترَ إلا الشيطان يختبئ خلف كلماته. قلبها ينزف، لكن عقلها بدأ يخط خُطوط النجاة : لو لعبت غلط دلوقتي هو هيلتهمني أنا ومريم. لازم أسايره لحد ما ألاقي الثغرة اللي أقدر أهرب منها.


مرت الدقائق ثقيلة. رياض كان يشرح بحماس، يرفع صوته ويخفضه كأنه يلقي خطابًا، يرسم أحلامًا من ذهب، يلوّن المستقبل بألوان زائفة.

أما هي، فكانت تهز رأسها فقط، تبتسم ابتسامة هادئة، وتهمس أحيانًا :

 "عندك حق يا رياض، أكيد كله هيبقى تمام."


لكن داخلها كان يموج بعاصفة : أنا مش غبية زي ما إنتَ فاكر، وأنا مش ضعيفة. المرة دي، يا رياض، إنتَ اللي هتتحرق مش أنا. النار اللي أنا شفتها في الحلم هتولع فيك إنتَ.


دقّ جرس الساعة، اقترب الموعد. وقف رياض بسرعة، أطفأ سيجارته، وأخذ مفاتيحه بلهفة :

 "يلا يا نور، معادنا قرب. النهارده بداية حياتنا الجديدة."


نور وقفت ببطء، رفعت عينيها للسماء وهمست في سرها :

 "اللهم دبر لي فإني لا أحسن التدبير."


ثم حملت حقيبتها، وسارت بجواره، بخطوات هادئة من الخارج، لكنها من الداخل كانت تتهيأ لمعركة مصيرية تعرف أن الفوز فيها لا يكون إلا بالذكاء والصبر.


ركبت نور سيارتها وجلست خلف المقود، يداها على الدركسيون تتماسك رغم الارتجاف الخفي في أصابعها. رياض جلس بجوارها، ألقى جسده للخلف وكأنه مرتاح، لكن عينيه لم تفارق شاشة هاتفه. كان يكتب باستمرار، يرد بسرعة، يضحك ضحكات قصيرة متقطعة.


نور كانت تتابعه من طرف عينها، قلبها يغلي. مين اللي بيراسلها طول الوقت؟

تذكرت صوته وهو يقول : "أنتِ بس اللي مراتي." ثم صوته مع التانية : "بحبك يا جميل."

الأسئلة تقاتلت في رأسها:

– هل هو متزوج فعلًا؟

– ولا دي عشيقة؟

– ولا فيه عصابة وبيأدي أوامر؟

كل الاحتمالات دارت كالسكاكين، تمزقها.


تنفست بعمق، وهي تحاول تثبيت عينيها على الطريق. يا رب.. أنا كنت غبية للدرجة دي؟

أمسكت الدركسيون بقوة، كأنها لو تركته لحظة سيسقط العالم كله.


رياض التفت إليها فجأة، لاحظ أن ملامحها ليست هي نفسها. لا لهفة، لا ابتسامة عفوية. في عينيها شيء مختلف.. شيء لم يعرفه من قبل. ضيّق عينيه وهو يراقبها : إيه اللي جرى لك يا نور؟ معقول سمعتني؟


إبتسم ابتسامة جانبية، يحاول أن  يخفي ارتباكه. لكن قلبه ارتبك أكثر.


أما هي، فكانت تحاول أن تخفي ارتجافها بالدعاء. شفتاها تتحركان بصمت، قلبها يهمس في سرها :

 "اللهم اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه."


كلما ردّدته، أحست بطمأنينة خفيفة، وكأنها تحيط نفسها بسور من نور وسط هذا الظلام الجالس بجانبها.


كان الطريق صامتًا إلا من صوت محرك السيارة، لكنه في داخلها كان عاصفة. وبينما هو يكتب رسائل جديدة، كانت هي تكتب خطة أخرى بخيوط الدعاء والإيمان والصبر.

السيارة شقت طريقها وسط الزحام، وكل ثانية كانت كأنها ساعة. نور قبضت على عجلة القيادة، تنظر إلى الأمام بثبات مصطنع، بينما قلبها يلهث داخليًا.


رياض بجانبها، مازال ممسكًا بالهاتف، أصابعه تتحرك بسرعة، عيناه تلمعان بخبث لم يعد يستطيع أن يخفيه. بين حين وآخر، يطلق ضحكة قصيرة وهو يكتب :

 "ما تقلقيش، كله ماشي زي ما خططنا."

ثم يضغط على زر الإرسال، وكأنه يغرز سكينًا جديدًا في قلبها.


نور كانت تسمعه دون أن تنظر، كل كلمة تزيد يقينها. هو مش لوحده، في حد وراه. وأنا كنت مجرد طُعم.


بينما السيارة تقترب من قلب المدينة، عيناها انعكستا في المرآة. لم ترَ وجهها المعتاد، بل امرأة أخرى. امرأة مكسورة، لكنها مصممة ألا تُكسر أكثر.


– "اللهم اجعل كيده في نحره، وأرني فيه قدرتك."

رددت الدعاء بصوت منخفض، كأنه وقود يمدها بالقوة.


رياض التفت إليها فجأة، صوته فيه نغمة ريبة :

 "مالك ساكتة ليه؟ شكلك مش زي العادة، إيه يا نور، زعلانة مني؟"


إبتسمت ابتسامة صغيرة، متعبة، لكنها أخفت العاصفة بداخلها :

 "أنا بس مركزة في الطريق، عايزة أوصل بسرعة."


ضحك بخفة :

 "إنتِ دايمًا كده، قلبك أبيض زيادة. سيبيني أنا أتصرف، وكل حاجة هتمشي زي الفل."


لكن داخله، كان ناقوس الخطر يدق. نظرتها مش مطمّنة، فيه حاجة اتغيرت فيها.

ومع ذلك، هز رأسه وقال لنفسه : مستحيل، لو كانت سمعت حاجة، ما كانتش قاعدة تسوقني دلوقتي. دي كانت عملت حفلة فضايح.


السيارة توقفت أمام البنك. مبنى مرتفع، زجاجه يلمع تحت شمس ما بعد الظهيرة. نور ركنت السيارة ببطء، أغلقت المحرك، وجلست لحظة قبل أن تنطق.


نور:

 "يلا يا رياض."

قالتها بابتسامة رقيقة، بينما قلبها يصرخ : اللهم ثبتني، خليني أعدي من المصيدة دي.


عدل جاكيتته، مسح على شعره، وأمسك يدها قبل ما ينزل :

 "النهاردة بداية جديدة، هتشوفي."


لكنها، وهي تسحب يدها بهدوء، فكرت :

أيوه، بداية جديدة. بس مش زي ما إنت متخيل يا رياض.


دخلت نور إلى البنك بخطوات ثابتة، رغم أن قلبها كان يرتجف بداخلها. المكان فخم، الأرضية من الرخام اللامع، والموظفين يتحركون بلباقة، يوزّعون ابتسامات رسمية على العملاء.


رياض كان بجانبها، متألق كالعادة بمظهره المرتّب، يحاول أن يخفي توثره بابتسامة واثقة. ما كفّش عن الكلام طول ما هم ماشيين ناحية المكتب :

 "بصي يا نور، هنقول إن المشروع قايم ومستقر، وإنتِ ضامنة معايا. المدير صاحبك هيفرح إنك داخلة معايا وهيسهّل كل حاجة."


نور أومأت برأسها، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفايفها. لكن في عينيها كان فيه شيء مختلف، شيء رياض ما قدرش يفسّره.


وصلوا إلى مكتب المدير. رجل خمسيني، أنيق، بشوش الملامح، وقف يسلّم على نور بحرارة :

 "أهلًا أستاذة نور، من زمان ما شفناكيش. إتفضلي، اتفضلي."


إبتسمت وهي تسلّم عليه :

 "إزيك يا أستاذ سامي؟ ماعلش على الغيبة، الحياة خدتنا."


إلتفت سامي ليرى رياض، مدّ إيده يسلم عليه :

 "حضرتك تبقى…؟"


رياض ابتسم ابتسامة ساحرة :

 "أنا رياض، خطيب نور. جايين نتكلم مع حضرتك في موضوع مهم."


جلسوا جميعًا. سامي طلب قهوة، وبعد دقائق بدأ رياض يعرض فكرته. صوته كان مليان ثقة وحماس :

 "بص يا أستاذ سامي، إحنا عايزين ناخذ قرض محترم. مشروع إستثماري كبير، مضمون النجاح. أنا معايا خبرة في المجال ده، وكل اللي محتاجينه سيولة أولية علشان نتحرك بسرعة. وصدقني العائد مضمون."


سامي رفع حاجبه، ونظر إلى نور :

 "وإنتِ شايفة إيه يا أستاذة نور؟"


هنا، نور أخذت نفس عميق. عينيها قابلت عيني سامي، وفيها رسالة صامتة : ساعدني. من غير ما هو يشك.


قالت بابتسامة هادئة :

 "أنا واثقة في رياض، هو شايف إن المشروع هينجح. وأنا هنا علشان أدعمه. بس طبعًا أنا محتاجة ضمانات واضحة."


رياض قاطع بسرعة :

 "أكيد، أكيد! أنا اللي هتصرف في الميزانية كلها. إنتوا بس وافقوا على القرض، والباقي عليا."


نور لمعت عينيها، وهي ترد بنبرة عادية لكن حادة :

 "بس يا رياض القرض هيبقى باسمي برضه. يبقى لازم أنا أكون متابعة كل التفاصيل. مش هوقّع على ورقة إلا وأنا فاهمة."


رياض ضحك وهو يهز راسه :

 "يا حبيبتي، أنا وإنتِ واحد، إيه يعني التفاصيل الصغيرة دي؟"


نور ضحكت بخفة :

 "مش صغيرة يا رياض، دي حياتي وحياة بنتي."


سامي تدخّل وهو يحاول كَسْرَ التوثر :

 "أنا شايف إننا نمشي بالخطوات الرسمية. نجهز الأوراق، ونحدد قيمة القرض، وبعدها نشوف خطة الصرف. وكل حاجة لازم تكون واضحة ومكتوبة."


نور بصت لمدير البنك، وشكرته بعينيها.

رياض، رغم ابتسامته المصطنعة، كان بيغلي من جوّا. حس إن نور مش نفس البنت المستسلمة اللي عرفها. كان شايف في كلامها قوة، وفي عينيها تحدي.


وهو بيوقع على ورقة مبدئية، عقله كان شغال : معقول سمعتني؟ لا… لا مستحيل. بس ليه عينيها فيها اللمعة دي؟


أما نور، وهي بتوقع بدورها، كان عقلها بيقول :

النهاردة بداية لعبة جديدة. وهو مش عارف إن الليلة دي أنا اللي ماسكة خيوطها.

– 


خرج رياض ونور من باب البنك. الجو كان مشمس لكن قلب نور غارق في عاصفة. رياض أشعل سيجارة بسرعة، وابتسم ابتسامة مصطنعة وهو بيقول :

 "شُفتِ؟ الأمور ماشية زي الفل. أهو مدير البنك صاحبك فتح لينا الباب على مصراعيه."


نور أومأت برأسها، إبتسمت ابتسامة دافئة وقالت :

 "الحمد لله، إنت فعلاً عندك نظرة يا رياض."


لكن وهي بترجع تبص قدامها، كانت عينيها بتتغير، بتلمع بغضب مكتوم. في داخلها كانت بتقول : نظرة نصاب، مش راجل.


ركبوا العربية. رياض كان ماسك تليفونه طول الوقت، إيديه مشغولة يكتب رسائل بسرعة. نور كانت سايقة بهدوء، ملامحها عادية، بس عقلها شغال بأقصى طاقته.


بدأت تسأل نفسها :

مين اللي كلمها وقالها "ما تتصليش كثير"؟ هو متجوز؟ ولا بيلعب على أكتر من واحدة؟ ولا دي شبكة… عصابة كاملة؟


إيديها كانت على الدركسيون، ثابتة، لكن جواها كان فيه زلزال. ومع كل شك، كانت بتردّد في سرها :

 "اللهم اجعل كيده في نحره.. واحفظني أنا وبنتي."


رياض بص لها فجأة، وهو بيولع سيجارة تانية. لاحظ الهدوء الغريب اللي لابسها :

 "مالك يا نور؟ ساكتة ليه؟ مش فرحانة إننا قطعنا أول خطوة؟"


إبتسمت وهي لسه عينيها على الطريق :

 "فرحانة يا رياض، إنت اللي مخليني مطمّنة."


ضحك ضحكة قصيرة، بس قلبه كان بيرجف. دي مش نفس نور، فيه حاجة مختلفة. عينيها مش عينين الحب اللي متعود عليها.


في دماغه صرخة : مستحيل تكون سمعتني، لو سمعت، ما كانتش قاعدة سايقة كده بهدوء. نور دي عاصفة لو اتعصبت. لأ… لأ مستحيل.


لكن رغم محاولاته يقنع نفسه، فضلت نظراته تراقبها في صمت.


ونور… كانت بترسم خطتها في ذهنها : لازم أبان عادية. لازم ألعب لعبته وأطلعه من جحره بنفسه.


بعد ما خرجوا من البنك، الجو في العربية كان تقيل كأن السقف بينزل عليهم. رياض ماسك الموبايل بإيده، كل شوية يكتب بسرعة ويبعث رسائل، لكن ما يردش على المكالمات اللي بترن.


نور كانت سايقة، قلبها بيخبط في صدرها. من أول ما شافت طريقته في البنك، حسّت إن في حاجة مش طبيعية. كان مركز زيادة، كأن كل كلمة بتتقال بتتخزن عنده.


فجأة قال بنبرة عادية جدًا، كأنه بيتأكد من شيء عابر :

 "إنتِ متأكدة من كلام مدير البنك؟ يعني بجد هيخلص لينا القرض بالسلاسة دي؟"


نور عضّت على شفايفها، وبصت لقدام. ردّت بهدوء :

 "أيوه… أنا متأكدة. الراجل ده كان صاحب جوزي الله يرحمه، وهو اللي كان بيخلص له كل حاجة قبل كده."


هزّ رياض راسه، إبتسم ابتسامة صغيرة مصطنعة، وقال بنبرة باردة:

 "كويس، علشان أنا سجلت كل اللي اتقال، ولسه هراجع التسجيل تاني عشان أتأكد من التفاصيل."


الكلمات غرست في قلبها زي خنجر. ما علّقتش. بس جواها، عرفت الحقيقة : هو ما بيكلمهاش، هو بيراقبها. ما يديهاش ثقة حقيقية.


نور بصت له بسرعة وهي بتسوق، ولاحظت وشه اتغيّر، كان متوتر، وعينيه فيها قلق مش مفهوم. في اللحظة دي حسّت إن رياض مش مجرد نصاب، ده مربوط بناس أكبر منه.


هي ما قالتش كلمة. فضلت ساكتة، بس جواها ارتفع الدعاء :

"اللهم اجعل كيده في نحره… اللهم نجني وابنتي من شره."


وصلوا البيت بعد يوم طويل. نور دخلت وهي تحاول تبان هادئة، لكن قلبها كان بيخبط في صدرها كأنه ناقوس خطر. رياض دخل وراها، رمى جاكتتُه على الكنبة، مسك سيجارة وأشعلها بسرعة.


الموبايل رنّ مرة… واثنين … وتلاتة.

هو مسكُه، وبسرعة راح على البلكونة.


نور وقفت مكانها تتابعه بعينين مرعوبتين. شافت ضهره وهو واقف، كتفه متشنج، إيده بترتعش وهو ماسك التليفون. صوته كان غاضب، عالي رغم إنه بيحاول يهدّيه:

 "أنا قُلتلكم سيبوني أخلصها على راحتي!… آه… فاهم. بس مش كده."


إتسعت عيون نور وهي تسمع نبرة امرأة ترد بعصبية من بعيد. ما فهمتش الكلمات، لكن نبرتها كانت مليانة تهديد. رياض رفع صوته أكتر، عصبيته واضحة :

 "خلاص! هخلص كل حاجة بكرة، ما تقلقوش. بس إوعوا تفكروا إني مش عارف إنتوا بتلعبوا إزاي."


إنتهت المكالمة وهو يزفر بقوة، مسك رأسه بيده كأنه هيطير من الضغط.


نور، اللي كانت واقفة في الصالة متجمدة، اتجهت للمطبخ بخطوات متسارعة. وقفت قدام الحوض، مسكت كوب مية، بس إيدها بترتعش لدرجة إن المية اترشّت على الأرض.


"بكرة كتب الكتاب… بكرة هيضيعني ويمضيني على كل حاجة."

جملتها الداخلية كانت بتدور في دماغها كطاحونة. حاولت تفكر بسرعة : إزاي تهرب؟ إزاي تحمي نفسها وبنتها؟


لكن عقلها كان مثقل، وأفكارها متشابكة. مسكت الرخامة بكل قوتها علشان ما تنهارش.


وفجأة… سمعت خطواته وراه.


التفتت بسرعة، وصرخت شهقة مكتومة.


كان واقف في باب المطبخ، ضله ممدود على الحائط، عينيه حمرا من الغضب والتعب، ملامحه غامقة… وكأنه شيطان طالع من الظلام.


ابتسم ابتسامة باهتة، لكن عينيه كان فيها بريق قاتل.

تقدّم خطوة ناحيتها، صوته خارج هامس ومرعب :

 "إنتِ فاكرة تقدري تضحكي عليا يا نور؟"


نور تراجعت خطوة، ضهرها اتسند للرخامة، إيديها بتترعش. هو قرب أكثر … وأكثر … لحد ما صارت أنفاسه الحارّة على وشها.


المطبخ غرق في صمت مخيف.

في اللحظة دي، نور حسّت إنها واقفة قدام نهايتها.

 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كاملةمن هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

 مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا







تعليقات

close